خطوات رمزية فرنسية لتفادي تقديم الاعتذار عن حرب الجزائر

ماكرون يستلم التقرير المنتظر حول حرب الجزائر المحتوي على مقترحات ترمي لإخراج العلاقة الجزائرية الفرنسية من الشلل بسبب قضايا الذاكرة العالقة منذ حقبة الاستعمار.
فرنسا تسعى لخلق جسور التواصل مع الجزائريين وتفكيك ذاكرة الاستعمار الأليمة

باريس - قالت الرئاسة الفرنسية الأربعاء إثر تسلمها تقريرا حول استعمار الجزائر وضعه المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا، إنها تعتزم القيام بـ"خطوات رمزية" لمعالجة الملف، لكنها لن تقدم "اعتذارات".

وأضاف الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيشارك في ثلاثة احتفالات تذكارية في إطار الذكرى الستين لنهاية حرب الجزائر في 1962، هي اليوم الوطني للحركيين في 25 سبتمبر/أيلول وذكرى قمع تظاهرة الجزائريين في باريس في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، وتوقيع اتفاقيات إيفيان في 19 مارس/آذار 1962.

ويسلم المؤرخ الفرنسي الأربعاء الرئيس الفرنسي تقريره المنتظر حول الاستعمار وحرب الجزائر (1954-1962) الذي يحوي مقترحات ترمي لإخراج العلاقة بين فرنسا والجزائر من الشلل الذي تسببه قضايا الذاكرة العالقة.

فقد كلّف إيمانويل ماكرون ستورا، أحد أبرز الخبراء المتخصصين بتاريخ الجزائر الحديث، في يوليو/تموز "بإعداد تقرير دقيق ومنصف حول ما أنجزته فرنسا حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر" التي وضعت أوزارها عام 1962 وما زالت حلقة مؤلمة للغاية في ذاكرة عائلات الملايين من الفرنسيين والجزائريين.

ويريد المؤرخ الفرنسي قبل كل شيء تعزيز "الرغبة في خلق جسور وتداول وتفكيك الذاكرة" كما صرح الثلاثاء، مضيفا "هذا ليس إيديولوجيا فحسب، وليست مجرد خطابات نلقيها وكلمات مختارة نقولها، ولكنها أفعال، أي فتح الأرشيف وتحديد الأماكن والبحث عن المفقودين، وإحداث مقابر. هذه أشياء بسيطة للغاية وعملية للغاية وواضحة للغاية، لكنها كلها مسائل خلافية وثقيلة للغاية بين فرنسا والجزائر".

يبدي ماكرون وهو أول رئيس فرنسي ولد بعد هذه الحرب، عزمه على حلحلة هذا الملف الشديد التعقيد ومحاولة تهدئة العلاقات المتقلبة منذ عقود بين البلدين والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ منذ غزو الجزائر واحتلالها عام 1830 إلى حرب الاستقلال.

في فبراير/شباط 2017 زار الرئيس الفرنسي الجزائر في خضم حملته للانتخابات الرئاسية، وصرح للتلفزيون الجزائري أنه "من غير المقبول تمجيد الاستعمار" الذي "يمثل جزءا من التاريخ الفرنسي"، وهو "جريمة ضد الإنسانية". وقد لقيت تلك التصريحات انتقادا واسعا من خصومه اليمينيين في فرنسا.

قبل ذلك ببضعة أشهر تحدث ماكرون في كتابه "ثورة"، عن وجود "جوانب حضارية" في استعمار الجزائر. وقال "حصل تعذيب، لكن نشأت أيضا دولة وثروة وطبقات وسطى. كانت هناك جوانب حضارية وجوانب همجية".

في 14 سبتمبر/أيلول أحدث مفاجئة بزيارته أرملة موريس أودان بعد 61 عاما من مقتل هذا المناضل الشيوعي تحت التعذيب في سن الخامسة والعشرين.

وطلب حينها الرئيس الفرنسي "الصفح" من جوزيت أودان (87 عاما)، وقدم لها إقرارا "باسم الجمهورية الفرنسية أن موريس أودان عُذّب ثم قُتل"، وأن وفاته حصلت بسبب "نظام أنشأته فرنسا في الجزائر".

في الجزائر كلف الرئيس عبدالمجيد تبون مدير الأرشيف الوطني ومستشاره الخاص عبدالمجيد شيخي بالعمل على ملف الذاكرة بالتنسيق مع بنجامان ستورا، في مقاربة مشتركة ومنسقة بين رئيسي الدولتين.

ومع اقتراب الذكرى الستين لنهاية الحرب (1962-2022)، كلّف ماكرون المؤرخ الفرنسي بهذا التقرير كجزء من مبادراته لمحاولة "إنهاء العمل التاريخي حول حرب الجزائر"، لأن "لدينا الكثير من الذكريات عن حرب الجزائر وهي جروح كثيرة"، وفق قوله في ديسمبر/كانون الأول.

في فرنسا وحدها تحضر الجزائر بقوة في الذاكرة العائلية لملايين الفرنسيين والجزائريين سواء كانوا من الأقدام السود (الفرنسيون المولودون في الجزائر خلال الاستعمار)، أو المجندين في الحرب (التي بقيت لفترة طويلة توصف بمصطلح "أحداث في الجزائر")، والحركى، وهم الجزائريون الذين قاتلوا من أجل فرنسا، وبالطبع من المهاجرين الجزائريين...

ذاكرة الاستعمار تسمم العلاقة بين الجزائريين والفرنسيين
ذاكرة الاستعمار تسمم العلاقة بين الجزائريين والفرنسيين

الخروج من نزاعات الذاكرة

كتب ماكرون في رسالة تكليف ستورا "من المهم أن يُعرف تاريخ حرب الجزائر وينظر إليه بعقل متبصّر. فالأمر ضروري لراحة وصفاء نفس من أضرت بهم". ورأى أن الأمر يتعلق أيضا "بمنح شبابنا إمكانية الخروج من النزاعات المتعلقة بالذاكرة".

ومن الجانب الجزائري أعرب تبون في مقابلة مع صحيفة 'لوبينيون' الفرنسية، عن أمله في أن يعمل شيخي وستورا "في جوّ من الحقيقة والصفاء والهدوء لحلّ هذه المشاكل التي تسمّم علاقاتنا السياسية ومناخ الأعمال وحسن التفاهم".

وتنتظر الجزائر من باريس أن تقدم لها "كلّ" أرشيف الفترة الاستعمارية (1830-1962) المتعلق بها، وفق عبدالمجيد شيخي، أحد المشاركين في حرب الاستقلال.

وقال شيخي "تطالب الجزائر بكلّ أرشيفها الموجود في قسم كبير منه في فرنسا"، مشيرا الى أن فرنسا "لطالما قدّمت ذرائع" لعدم تسليمه، "مثل عدم رفع السرية عن جزء من الأرشيف رغم أنه جُمع قبل عقود".

وسبق أن أعادت فرنسا إلى الجزائر جزءًا من الأرشيف، لكنها احتفظت بالجزء المتعلق بالتاريخ الاستعماري والذي يقع، وفقًا لها، تحت سيادة الدولة الفرنسية.

يُدرّس ستورا المولود في 1950 في مدينة قسنطينة في الجزائر، تاريخ المغرب العربي وحروب إنهاء الاستعمار والهجرة المغاربية في أوروبا في جامعة باريس 13 وفي معهد اللغات الشرقية. ومن أشهر مؤلفاته "الغرغرينا والنسيان"، "ذاكرة حرب الجزائر"، و"المجندون في حرب الجزائر"، و"الجزائر الحرب الخفية".