خطى الحنين في غرفة الشاعر
عندما تكون خارج الوطن، ترى الوطن أحلى، وتحس بأنه أغلى، ونشعر برنة الفقد واليتم، ونحن إليه أشد ما يكون الحنين، ونتوق إلى شربة من مائه، رغم أن الماء يجري حولنا خارج الحدود، ولكنَّ لماء الوطن طعمًا آخر، ولخبز الوطن رائحة أخرى، ولصحراء الوطن سحرًا آخر.
هكذا يجسد لنا الشاعر السعودي حمد العسعوس أحاسيسه ومشاعره، وهو في رحلة خارج الوطن، فيكتب في بريطانيا قصيدة بعنوان "وطن من ذهب"، ورغم أن كثيرًا من الشعراء كتبوا قصائد – بل دواوين – العشق والشوق واللهفة والحنين إلى الوطن، ورغم أن هذا الشعور شعور طبيعي لكل إنسان محب لوطنه، غيور عليه، فإنه عند العسعوس يجئ شعورًا حادًّا مخترقًا لكل أحاسيس اللهفة والحنين، وكأنها المرة الأولى التي يكتب فيها الشاعر عن غربته وأشواقه من خارج الوطن، وعادة ما تكون المرة الأولى أكثر حدة، وأكثر استجابة لهذا الزخم المتضارب والمشاعر الفياضة.
أتذكر ديوان الشاعر المصري محمد أبودومة "أتباعد عنكم فأسافر فيكم" ومعظم قصائده أيضًا كتبت خارج الوطن خلال رحلة دراسية لنيل درجة الدكتوراه من المجر، فيقول: آه على الشعراء .. إلى حيث يرتحلون ترافقهم لعنة العشق، يتبعهم الابتلاء، فلا بالبقاء نجاة ولا بالهروب مفر".
وهكذا ترافق الشاعر حمد العسعوس في رحلته – ربما الدراسية أيضا – لغة العشق والشوق والحنين.
يرسم الشاعر في بداية قصيدته لوحة صباحية مضيئة لا مكان فها للأرق ولا السهر ولا الظلام ولا القمر، ولكنها شمس الصباح المشرقة وبهجة الربيع المونقة، تلك التي تذكره بشمس الوطن التي يحن إليها، وبربيع الوطن ونكهته التي لم يجد مثلها في الغربة، فيقول:
والشمسُ – في الغربِ – مشرقةٌ
والظلامُ تولَّى كشيخٍ كفيف
إنني الآن أصحو مع الصبحِ
أكتبُ لحنَ العصافيرِ وهي تغنِّي
أناشيدَ بهجة الربيع
فكيف ربيعُك يا وطنًا من ذهب؟
وكما نرى فإنها لوحة منتزعة من الطبيعة، لم يظهر فيها بعد أثر ذلك الحنين الجارف لرؤية الوطن باستثناء ذلك التساؤل الذي يحمل شحنته من الأسى والشجن في نهاية المقطع.
ثم تبدأ الرؤى تتزاحم، وصور الوطن تتتابع وتتصاعد، ورغم أنه يحاول التهرَّب من وقع خطى الحنين في غرفته، فإنه لا يستطيع، ومن ثم تبدأ عملية تصعيد شعور الغربة والحاجة الماسة إلى شربة من ماء الوطن:
شربتُ من البحرِ حتى ظمئت
وما زلتُ في حاجةٍ للعطَش
غبارُ المسافة يُثقل راحلتي بالحنينِ إليكَ
ويُثقل قافيتي بالتغرب
ثم تبدأ المناجاة والبوح وعقد المقارنات الشعورية واللاشعورية المبررة وغير المبررة، بين وسائدهم ووسائد الوطن، وموائدهم وموائد الوطن، والوجوه في الغربة، والوجوه في الوطن، وتبدأ رحلة المعاناة جرَّاء الإقامة بعيدًا عن الوطن في الصعود إلى أجواء القصيدة، ويبدأ رمز "البومة" في حمل الشحنات النفسية، وتحقيق المعادل الموضوعي في القصيدة، وتأخذ عملية رصد الواقع الخارجي والتحليل النفسي للمشاعر الداخلية أبعادها، الأمر الذي يساعد على إبراز التناقضات الحادة التي يعيشها الشاعر، ومما يساعد على الإتيان بصور شعرية مبتكرة، مثل: "كأني الجنازة غادر أهلها"، و"الصقيع يغطي الخشب"، ولكن من ناحية أخرى فإن سرعة الرصد لحالة الاغتراب تجعل الشاعر يقع أحيانًا في حبال النثرية والمباشرة مثل قوله: "وبرود العواطف منتشر كانتشار الوباء كانتشار الجرب"، ومثل: "الطعام بلا نكهة". وعندما يحاول التخلص من مسألة رصد الواقع الخارجي والهروب من عملية التحليل النفسي لحالة الاغتراب التي يحياها، فإنه يلجأ مرة أخرى إلى التغني بالوطن، فيقوم، وهو في حالة من النشوة والاستمتاع، بترديد أسماء أماكن معينة على خارطة الوطن، ويسأل:
كيف حالُ أهالي الرياض
كيف حالُ شواطئ جدةَ يا وطني
كيف حالُ ربع الشمال
كيف حالُ جبال عسير
كيف حالُ نخيل الهفوف؟