خليط من السرد الواقعي والفكر السوسيولوجي في 'الأمسيات الأخيرة مع تيريسا'

فرادة رواية خوان مارسيه تأتي من كونها تشكل تشريحا دقيقا للمجتمع الإسباني في فترة ما بعد الحربين الأهلية الإسبانية والعالمية الثانية خاصة في مدينة برشلونة وضواحيها.

منذ أصدر روايته الأولى "الأمسيات الأخيرة مع تيريسا" والتي تعد إحدى روائعه، يعد الكاتب خوان مارسيه، أحد كبار رواد المدرسة القطلونية العظيمة في الرواية التي تجمع اتجاهات شتي؛ من مانويل باثكت مونتالبان وإدواردو مندوثا إلى تيرينثي موش، حيث تفرد في فنه الروائي بالميل إلى مجاوزة الطروح التقليدية للواقعية السابقة عليه بتصويرها كاريكاتوريا ووجوديا وباللجوء إلى العديد من المونولوغات الداخلية والجمل الاعتراضية التي تقيم سياقا موازيا لخط السرد الأساسي أو لمضارع الحكي، وذلك وفقا للمترجم د.محمد أبو العطا الذي قدم راجع وقدم للرواية التي ترجمها كل من آمال عبد الحميد وبسمة محمود وسالي وهدان، وصدرت عن المركز القومي للترجمة.

يؤكد أبوالعطا أن فرادة رواية "الأمسيات الأخيرة مع تيريسا" تأتي من كونها تشكل تشريحا دقيقا للمجتمع الإسباني في فترة ما بعد الحربين الأهلية الإسبانية والعالمية الثانية، خاصة في مدينة برشلونة وضواحيها. وتقوم الأحداث على مرتكزين أساسيين، وهما الطبقة البرجوازية القطلونية وطبقة الفقراء في الأحياء المعدمة في جبل الكرمل وجيناردو، إلى آخره، بدءا من عام 1956.

بطل الرواية فتي فقير نزح إلى إقليم قطلونيا الغني بحثا عن لقمة العيش. وهنا يطرح أديبنا قضية مهمة مازالت لها راهنيتها اليوم في إسبانيا وقطلونيا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين: قضية الهجرة من الأقاليم الفقيرة إلى الغنية في القطر نفسه وما يعانيه المهاجرون من الفاقة والتهميش والتمييز والإزدراء خاصة مع تفجر الأوضاع الآن في قطلونيا ومن بينها شعور الرفض الذي يواجهه هؤلاء.

ويرى أن خوان مارسيه في الرواية يرسم تضاريس المكونات الاجتماعية في الإقليم بدقة بالغة والكثير والكثير من الباروديا. فالبطل النازح من الجنوب يتمكن من الولوج إلى عالم البرجوازية القطلونية المتعجرفة والمنغلقة على نفسها، والتي تنعم وحدها بالعيش في بحبوحة وتراخ لا يقوى الفقراء على الحلم بهما. أولا بإقامة علاقة مع خادمة قصر أسرة ثرية ثم بالوقوع في حب ابنة هذه الأسرة الثرية التي تدرس في الجامعة. وأحداث الرواية هي تراوح مستمر بين الوسط الفقير في الأحياء العشوائية حيث الفقر والسرقة والمشاحنات الدائمة وبين وسط الأغنياء في القصور والمنتجعات والوسط الجامعي حيث تدرس تيريسا وحيث يعم مناخ من الفوران الثوري النخبوي الناعم، والذي لا يمت إلى واقع قطلونيا المرير بأية صلة. وهناك إيحاء مستتر بجو كابوسي قمعي لا يشار إليه في الرواية بشكل واضح، ونقصد بذلك إلى أن أسبانيا كانت ترزح تحت وطأة حكم الجنرال فرانكو.

ويلفت أبو العطا إلى أن خط السرد الأساسي يرصد علاقة الحب بيت تيريسا الفتاة الثرية والطالبة الجامعية المنشغلة بالفكر الثوري نتيجة قراءتها للفكر اليساري الفرنسي والذي لا يعدو كونه ترفا يمارسه شباب البرجوازيين في برشلونة؛ ومانولو، الجنوبي (من إقليم مرسيه)، الذي يعمل في الظاهر في ورشة أخيه لإصلاح الدراجات فيما يقوم في الحقيقة بسرقة الدراجات النارية وبيعها. وتتطور الأحداث ويحدث تقارب بين مانولو (أو كما يطلق عليه الكاتب بيخو أبرتي وهي كلمة منحوتة تعني ابن الذات) وتيريسا بناء على اعتقاد خاطئ منها بأن الفتى الجنوبي يعمل في تنظيم سري ثوري قوامه جماعات من عمال المصانع، فتنجذب إليه وتنشأ بينهما قصة حب، أما النهاية فمعروفة ومحتومة ووجودية، إذ ينفضح سر لص الدراجات ويزج به في السجن.

ويؤكد أن قيمة الرواية تكمن في لغة السرد وفي التجديد الروائي، إذ تتناءى عن أسلوب الواقعية التقليدية، فهي ترصد الواقع ولا تحاكمه، وتناقش الأفكار دون أن تلتصق بأي منها، وتراقب سلوك الأفراد وولكن دون أن تدينهم. أما السرد نفسه فيتقدم في عدة مستويات. فعلى الرغم من أن الرواية في ضمير الغائب، فإنه من جنس الراوي الشريك حين يتعرض لشخصية البطل مانولو ثم يعود ليأخذ مكانه الطبيعي عندما يتعامل مع بقية الشخوص. في مقابل ذلك هنالك خط من السرد الموازي قوامه مجموعة من المناجاة الذاتية التي تعمق الدراما الحياتية لكل فرد من هذه الكائنات البشرية التي تعاني من أزمات وإضرابات وتناقضات هي حصاد مناخ إجتماعي وسياسي خانق. ومن السمات الرائعة لهذه الرواية نقاء الأفكار وتناولها، وكذلك الرسم الشفيف لمناخ الطبقات الاجتماعية التي يتنقل فيما بينها البطل.

ويشير أبو العطا إلى أنه من سمات الروائيين العباقرة أنهم يرصدون حركة أي مجتمع وشخصه في ضرب من ضروب المستقبلية، فهنا تشريح حقيقي لواقع مجتمع يحلل قضايا وأوضاعا تفاقمت فيما بعد لأن أحدا لم يلتفت إلى ما رصده الأدب وأوحى بنتائجه، فالشحنة الاجتماعية التي تحملها هذه الرواية هي خليط من السرد الواقعي والفكر السوسيولوجي الثقافي الراقي المتأسس على سلوك مجموعة من الشباب المتأزم الذي يطرح أعراضا لمشكلات وأمراض لاحقة سيكشف عنها مرور الزمن، وذلك بأسلوب مجرد نزيه متدفق.

يذكر أن خوان مارسيه هو روائي وصحفي وكاتب سيناريو إسباني. حصل على جائزة ميغيل دي ثيربانتس الأدبية الرفيعة سنة 2008. وهو أول أديب يفوز بهذه الجائزة من إقليم كاتالونيا، وقد كتب سيرته الأدبية جوزيف ماريا كوينكا بعنوان "عندما تأتي السعادة.. سيرة خوان مارسيه". وركزت معظم كتاباته على إسبانيا بعد الحرب الأهلية ومن أشهر أعماله "حكاية ابنة العم مونتسي المريبة"، "الفتاة ذات السروال الذهبي"، "لو أخبروك أني سقطت"، "اعترافات لص"، "يوما ما سأعود"، "الملازم الشجاع"، "جولة في حي جيناردو"، "العشيق الثنائي اللغة" التي حصلت على جائزة اتينيوم أشبيلية عام 1991، وجائزة النقد عن رواية "سحر شنغهاي".

مقتطف الرواية

ظلت النافذة مغلقة مدة أربع ساعات. بعض الأمتارة لأعلى، ظلت أضواء الشرفة تحتفل بالليل، وهو، جالسا على الجذع المقطوع من شجرة صنوبر، وذقنه في كفه وعيناه راشقتان في تلك النافذة، ظن أنه يعيش أسوأ لحظات وجوده. أحس بالبرد في ظهره، وشيئ داخله، قال لنفسه "إنها أحشائه، راح يجتر التعاسة القديمة التي جرت في دمه منذ طفولته، قال لنفسه "إنها لا تريد، لا تريد". سمع موسيقى أسطوانة، أصوات شباب في الشرفة، ورأى رجلا يأتي في سيارة، سيدا ذا شعر رمادي ومظهر مرموق استقبل بصيحات ترحيب سعيدة. بعد ذلك صمت ساعة العشاء الرهيبة، توديع الصديقات، من جديد برهة لمحادثة، متحفظة وفي النهاية صمت تام وحاسم. لم يعد ينظر إلى النافذة، كان يسند جبينه إلى عضده، انطفأ آخر أضواء الفيلا، وحدا تلو الآخر، كل شيئ انتهى. "لا تريد، اللعنة، لا تريد".

... لم يحدث من قبل أن كان لأحد مثل نظرة الكلب البائس هذه، ولا تعبير بذلك الحزن، ولا معرفة لحظية وحيوانية برحابة الليل، ولا بشدة الأمواج العدمية، نفس الإحساس بالهجر جعله ملتصقا بالمكان هنالك، دون قوى، دون رغبة، منكمشا على جذعه، بعينين مفتوحتين في الظلام ونفس وضع الجنين الذي كان عليه؛ حاضنا ركبتيه، عدم اكتراث القبة الزرقاء من فوقه كان بمثابة مخدر لمدة ساعات: سكون تام في وجهه، تعبير ذهول شديد لاح منصهرا في الفراغ الكوني نفسه الذي ينأى كثيرا عن كل إحباط..آآآه!، صوت قمة شجرة الصنوبر أعلى رأسه هزها الهواء.

تأخر قليلا في الانتباه. أولا تخلل شعاع الضوء وانطفأ سريعا مرة أخرى، ثم اصطكاك خشب النافذة الشديد بالحائط: كان بيخوابارت قد قام مبتدئا بعقله أكثر من قدميه سباقا سريعا نحو الفيلا، بينما ظل، في الواقع، ساكنا، يسرح شعره بيده ويصلح من ملابسه. ثم كلما اقترب من الحائط المغطى باللبلاب، لاحظ النافذة المفتوحة والظلال في الداخل، أكثر كثافة من الليلية، كان عليه أن يدهس أجمة زهور تلاصق الحائط. وقف. كانت النافذة تصل لصدره. لم يسمع أي ضجة. قبل أن يقفز بالداخل نظر: لا شيئ، غير بقعة الملاءة البيضاء فوق القد الذي لا شكل له، دخل دون ضجيج، زاحفا مباشرة نحو السرير.

رأسها لأسفل، تحيط بذراعيها الملاصقين إلى الجانبين جسمها بالملاءة، وبظهرها الذهبي من التعرض للشمس، ماروخا، بدت نائمة بهدوء. وجهه برز جميلا وواضحا على الوسادة. تردد الدخيل لعدة لحظات واقفا عند قدم السرير، يسمع دقات قلبه، وبعد ذلك اقترب منها وانحنى على رأسها. تخللته رائحة السرير الدافئة والبشرة الأنثوية، عطر من شعرها، وتبخر شعرها. بقي لوهلة يتمتم باسم الفتاة، شفتاه ملتصقتان بأذنيها، أخذها بعد ذلك برقة من كتفيها، ولكن سرعان ما وجد نفسه مجبرا على أن يحملها. ماروخا، بالملاءة مشدودة إلى صدرها، نهضت.