دعوة الصدر إلى مظاهرة مليونية: انتحار حضاري

مقتدى في نشاطه السياسي على الطريقة الإيرانية أحب إليه يًقدم نفسه مقوماً قوى الاستكبار لا أن يكون مقاوماً لعسف السلطة من أجل بناء دولة عدالة.

بقلم: اسماعيل شاكر الرفاعي

 حققت ثورة الأول من ت٢ في العراق إجماعاً وطنياً حول شعاراتها، يشبه الاجماع الذي حققته الثورات العربية في موجتها الثانية في السودان والجزائر ولبنان. فالخراب الشامل الذي نتج عن السياسيات الحكومية، أقنع الناس بأن الاصلاح إما أن يكون شاملاً: أي يتناول فلسفة النظام وآليات اشتغال مؤسساته في ادارة الشأن العام، أو لا يكون. وهكذا ساعد الوعي العام هذه الثورات على امتلاك ناصية المهارة التكتيكية في المزاوجة في شعاراتها بين: المطلبي والثوري وبين الاصلاح والثورة، وقد نتجت عن هذه المزاوجة الناجحة الكثير من الشعارات، لكن يظل لشعار: نريد وطناً عبقرية خاصة.

إذ إنه يشير إلى أن رافعيه يعيشون في حالة خاصة لا يمكن لهم خلالها من امتلاك وطن: كما لو كانوا في حالة نزوح او هجرة او تيه، أما وهم يعيشون في وطن حقيقي، فأن النظام السياسي والحكومة يمنعان تجمعاته السكانية ـ نتيجة سياساتها التمييزية ـ من الارتقاء إلى مستوى مجتمع حديث. فالحكومة، وهنا المفارقة، هي خاطفة الوطن، ومن الصعوبة التفاهم والحوار معها، وهي جماعات حزبية شديدة التعصب لتصوراتها الطائفية التي تملي عليها النظر إلى الحكم على انه مجموعة من المناصب والامتيازات، وصلت اليها بالجهاد المتواصل، وهذه النظرة الضيقة تملي عليها أن لا تطمئن إلى مؤسسات الدولة كالجيش وقوى الامن الأخرى، وأن تعمل على إيجاد تشكيلات مسلحة إلى جانبها تمت تسميتها في العراق: الحشد الشعبي لحماية النظام السياسي من جيش الدولة ومؤسساتها الاخرى، وهذه هي مهمتها الاصلية : حماية نظام المحاصصة والفساد واللانظام.

ثورة الاول من ت٢ حققت على الأرض: وحدة الشباب العراقي، وهو ما لم تستطع تحقيقه جميع الاحزاب الاسلامية الحاكمة: فلا يوجد سني واحد في قيادة الاحزاب الشيعية ولا يوجد شيعي واحد في قيادة الاحزاب السنية. وانتجت الثورة عصبيتها الخاصة: وهي عصبية وطنية: ولاؤها للوطن العراق، وليس لأي طائفة دينية.

هذا وعي عصري متقدم: حاربته السلطة السياسية بالحديد والدم، إذ بلغ ما قتلته من الثوار رقماً مخيفاً: 600 مع آلاف الجرحى. بهذه الطريقة البطولية صنع الثوار ذاكرة وطنية معمدة بالدم فحازوا على شرعية تمثيل للشعب، وهذا تقليد عراقي رافق تأسيس الشعور الوطني في العراق: اذ يتقدم الصفوف في حيازة ثقة الشعب دائماً: المضحون بحياتهم، وقد قدم هذه التضحية قبل ثوار اكتوبر العراقية: وطنيو العراق في مراحل مختلفة من مراحل حياة هذا الوطن الجديد الذي يكاد يبلغ عمره 100 سنة (تأسس رسمياً عام 1921)، وكم اتمنى ان ينسى العراقيون هذيانهم عن كونهم أصحاب أول حضارة في التاريخ، إذ لا صلات تربط قبائل الجنوب بمبدعي تلك الحضارة من السومريين، وتفصلهم عنهم آلاف السنين. وواقع نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي لا يشير إلى أن هذه القبائل ذات مشروع حضاري: فهي تمارس الرعي والزراعة وهي انشطة تقليدية ورثتها كمهنة للعيش في الحياة: في الوقت الذي يتطلب فيه انشاء حضارة جديدة: رؤية جديدة للحياة تقوم على التحويل والانتاج والابتكار، بتكثير الاشياء عن طريق ابداعها واختراعها: لقد كثر السومريون آلات وادوات الانتاج الزراعي وتوجوها باختراع العجلة. والحال ان قبائل ريف جنوب العراق الآن من اشد المجتمعات نفوراً من الابتكار والانتاج، ومن اشدها قتلاً للخيال والابداع: فهم بمجملهم محافظون ورجعيون: وخطرهم على الثورة ماثلً بقوة في تبعية معظمهم لرجال الدين فالكثير منهم الآن لبى دعوة رجل الدين : مقتدى الصدر، الذي استنكف من الدعوة إلى الالتحاق بثورة الشباب العراقي، ودعا إلى مظاهرة مستقلة عن الثورة .

من عادة فقهاء الدين الاسلامي: وكل دين، عدم الاهتمام بأرزاق الناس وبمستوى معيشتهم، ولا ترد بالمرة على السنتهم او في كتاباتهم كلمات: تطور، والتخطيط لتطوير ما هو قائم ابداً. اذ ان كل شيء في رأيهم، كان قد اعد سلفاً ومكتوب في اللوح المحفوظ، ولا قدرة للإنسان على تغيير قدره الذي قررت الآلهة مساره منذ البدء. ثوار العراق خرجوا على هذا المنهج الفكري، وطالبوا علناً بتغيير ارزاقهم واقدارهم: فليس من المعقول بالنسبة إلى ثوار العراق في ثورتهم الجديدة: ان الله قد قرر مصيرهم منذ الازل في ان يكونوا: مهممشين وعاطلين عن العمل، في الوقت الذي قرر حياة ذهبية لمجموعة بشرية اثبتت عدم نزاهتها وافتقادها إلى الاخلاق. ولهذا ابتعدت شعارات الثوار عن الفرضيات الغيبية، وركزت تفكيرها وشعاراتها على الواقع المعيوش. وهو الواقع الذي يهرب من مواجهته رجال الدين، مفضلين حصر اهتماماتهم بالامبريالات العالمية، المعادلة الموضوعية لهموم الغيب، والابتعاد عن مناقشة واقع الناس وكيفية معيشتهم.

بهذا المعنى يستنكف الصدر من ان يقود مظاهرات ذات بعد اجتماعي، ويعتبرها نوعاً من “الكدية“على الرغم من ان السياسة الحديثة تقوم عليها: اذ لا قيمة ولا مستقبل انتخابي لاي حركة او حزب او تيار ان لم يكن مسلحاً ببرنامج يتضمن تصور اً كافياً عن الحياة الاجتماعية والثقافية، ودور الدولة في تنفيذ المشاريع الحياتية وليس المشاريع الخرافية الشرق اوسطية.

اقتداءً بها التقليد المتوارث يواصل: مقتدى الصدر نشاطه السياسي، فأحب شيء إلى هذا الرجل ان يذكره التاريخ مقاوماً للقوى الكبرى: قوى الاستكبار العالمي، على ان يذكره مقاوماً لعسف السلطة ومناضلاً من اجل بناء دولة عدالة لا تتحقق من غير بناء مؤسسات دولة تعمل وفق قوانينها الخاصة التي لا تسمح للسياسي مقتدى الصدر او المالكي او العبادي او هادي او صاحب العصائب بالتدخل بآليات عملها. هذه الامور يسميها مقتدى وسواه من زعماء النشاط السياسي الديني في العراق: “أمور زعطوطية“، وهم مخلوقون أصلاً لأمور كبار.

ومن هذه الامور الكبار : الصراخ في بلاد تزداد مساحة تصحرها كل عام لا ضد مسببي هذا التصحر : الاتراك والايرانيون : الطامحان إلى بناء امبراطوريات بعد ان تكاثر خدمهما من ليبيا إلى العراق، بل ضد الشيطان الاكبر : امريكا . وهذه ليست بطولة، اذ ان امريكا تسمح في داخلها وليس خارجها بل وحتى امام البيت الابيض بالصراخ ضدها بمختلف الشعارات .

سيكون الخاسر الوحيد من مظاهرة مقتدى غداً : هم اعضاء تيار مقتدى انفسهم لا سواهم : اذ سيتم في هذه المظاهرات غداً الدفاع عن استراتيج السلطة السياسية في المحاصصة وحرمان الناس من الوظائف والخدمات، والتغطية على شعارات ثوار ثورة اكتوبر الذين ينادون بتحسين واقع حياة العراقيين والارتفاع بمستوى شروط عيشهم.

كاتب عراقي