'دفعة لندن' بلا لندن

فقر الإنتاج كان شديد الوطأة على مسلسل يحمل عنوانا مشوّقا جدا تركنا مع تصورات جميلة لم تتحقق.
ميسلون هادي
القاهرة

في الحلقة الأخيرة من "دفعة لندن" تصف مؤلفة المسلسل هبة المشاري فترة الثمانينات أنها "السندريلا" بين الحقب كلها.. وهو وصف جميل وساحر ولا شك... لكن أين السندريلا، وأين دفعة لندن؟

أين الأميرة، وأين الأمير، وأين الثمانينات؟، أين الأيام التي من المفروض أن يتداولها طلاب شباب يقضون أجمل فترات حياتهم في كلية طبية بلندن؟. ضاع أثرهم بالثلاثة، ولم نعثر عليهم في عمل لا علاقة له باسمه، لأن أحداثه يمكن أن تدور في أية مدينة أخرى تتجاور فيها عائلات موتورة من جاليات مختلفة!!.. ولا علاقة له أيضاً بأبطاله، لأن الطلاب بدوا في سن أقرب إلى عمر الدراسات العليا منه إلى العشرينات وما دونها!!، ولا علاقة له أيضاً بالمملكة المتحدة، لأن الدراسة في لندن لا تعني حضور الدروس والمختبرات فقط، ولكنها تعني أيضاً رحلات ومتاحف ونزهات، وأكسفورد ستريت، ومدام تيسود ميوزم، وهايد بارك، وبك بن، وبكنغهام بالاس... إلخ، وهذا كله غير موجود في المسلسل على الإطلاق، وإنما الموجود هو لوكيشنات مظلمة، وديكورات محدودة تصور شارعا هنا وعمارة هناك وردهة أو مختبر بينهما.. فلم نر هؤلاء الطلاب يقومون برحلة بهيجة مثلاً إلى الريف الإنجليزي الساحر، أو يتمشون في شارع من شوارع لندن الحقيقية.. أو يحضرون عرضا لتبديل الحرس في قصر باكنغهام، وحتى عندما يصعدون الطابق الثاني من باصاتها الحمراء الشهيرة، فهذا يحدث داخل الاستوديوهات المظلمة، وعندما ينزلون، يكون الشارع داخل الأستديو أيضاً، مع الاكتفاء بوضع كابينة الهاتف الشهيرة فيه أو تشييد واجهات البيوت الإنجليزية ذات الطابوق الأحمر المتعارف عليه.

فقر الإنتاج كان شديد الوطأة على مسلسل يحمل اسم "دفعة لندن" وهو عنوان مشوّق جداً تركنا مع تصورات جميلة لم تتحقق، ليس لأن الإنتاج كان ضعيفا فحسب، لكن لأن هناك رؤية بوليسية قد انعكست بطريقة أو أخرى على كل مفاصل العمل قبل وبعد تنفيذه، فالكاتبة هبة المشاري هي ممن يُشهد لهم بجودة الأعمال التي تكتبها، ومنها مسلسلها التاريخي "سرايا عابدين"، وهي القادرة على خلق شخصيات كثيرة ورسم مسارات متعددة، غير أنها في هذا المسلسل قد أخذت طلابها إلى أجواء لا تحتمل رفع سقف التوتر إلى الحد الذي ضاع معه عنوان المسلسل، وهذا الضياع لم يمكن نافعاً أو مقنعاً لعمل شديد الخصوصية يُفترض أن أبطاله كلهم من الشباب، ويمتلكون مرح الشباب وعمر الشباب وجمال الشباب، ولكن أكثرهم كان يتصرف في جو مشدود غير مبرر، وبالتالي غابت يوميات الطلاب الهادئة الجميلة وحياتهم اللندنية الخالية من جرائم الخطف والقتل والإرهاب، فأين السندريلا التي تتحدث عنها المؤلفة، وأين دفعة لندن.

لم يكن للممثلين ذنب في هذه المعمعة التي وُضعوا فيها، فأغلبهم أجاد تمثيل ما هو مطلوب منه، ولكن عوامل التأليف والإخراج والإنتاج اجتمعت كلها لتجعل المُشاهد في حالة ضيق نفسي تسربت إليه من الأجواء المريبة والعوائل المتشنجة واللغة الفقيرة للإنتاج، بحيث لا نرى من السعادة ظفرها، ولا تكشف لندن عن نفسها، إلا من خلال مطر مزعج بلل رؤوس الجميع بدون داع، فأي حوار يمكنه أن يدور داخل جدران البيت نراه يحدث تحت المطر الغزير في تغريب يثير في النفس ضيقا شديدا، ويضع عبئا جديدا على المشاهد!!!.. بدون اختصار فأحداث هذا المسلسل أخطأت عنوانها مع الأسف، وكان يمكن لهذه الدراما أن تخص عوائل متصارعة ورجال أعمال أو عصابات، ويمكن أيضاً لهذه الأحداث، المكتوبة بجهد واضح، أن تحدث في أي مسلسل آخر ويكون ناجحا جدا، لكن اجتماعها في الصميم من وسط طلابي كان أمرا غير مفهوم، ومسحة التشنج التي شابتها كانت أيضا أمرا غير مفهوم، فأين السندريلا التي تتحدث عنها المؤلفة، وأين دفعة لندن.

شحنة التشنج هذه قد وُزعت بالتساوي حتى على العوائل ذات العلاقة بالطلاب أو تسكن بجوارها، فالعائلة الإيرانية متشنجة طوال الوقت وكذلك العائلة المصرية والعائلة العراقية والمجرم السوري والإرهابي الشامي الذي لم تتوضح جنسيته تماما.. قصص الحب أيضا تعيش في دنيا قاتمة وغريبة الأطوار سواء بين الكويتي والإيرانية، أو السوري والعراقية، أو الكويتي والعراقية، بحيث استغربُ جدا أن ينزعج العراقيون من المسلسل ويعتقدون أنه استهدف الشخصية العراقية تحديدا. وهذا الاعتقاد بصراحة قد قدم دعاية مجانية للمسلسل، وحملني أنا أيضاً على مشاهدته، لكي أتبين ملابساته، فاستغربتُ مما رآه الجمهور العراقي إساءة متعمدة للمرأة العراقية، لأن الذي رأيناه من أجواء مريبة للشخصيات كلها ترفع العتب عن رسم مهنة ميسون العراقية بهذا الشكل، فهي ابنة أب ثري تعرض لغدر صديقه وهي الوحيدة التي تصرفت بكبرياء منقطع النظير طوال الوقت، وقد أدت ريام الجزائري دورها باقتدار شديد، وكانت النهاية جميلة جدا بحقها، فلماذا أخذ الجمهور العراقي على المسلسل هذه الملاحظة؟، لماذا التركيز على أمر لن ينتبه المشاهد العربي له على الإطلاق؟

الدراما تعرف توتر الأحداث وليس اختلاف الجنسيات، ومن هذه الناحية فالمسلسل قد أجاد توزيع الكوارث على الجميع دون مسوغات معقولة، أو دون اعتبار لمنطق العمل، أو عنوانه الهادئ الأنيق، وهل هناك أغرب من حمل طالبة كويتية (متدينة محجبة) عن طريق خطأ طبي. ومع هذا تقرر الاحتفاظ بالطفل لحين ولادته دون أن نعرف كيف واجهت الناس، أو كيف تقبّل أهلها حملها، فبدت سعيدة راضية، وخطيبها الكويتي متعاطف معها أيضاً، وكأنهما يعيشان في كوكب آخر؟، وعلينا أن نقيس على هذا الحال من عدم الارتياح، علاقات أخرى غير منطقية تجسدت لنا كآبتها، حتى داخل شقة لمجموعة من الطالبات يُفترض أن تمتلئ بالمرح والفرح والأغاني، لكن الأجواء المريبة والخافتة هي سيدة الموقف.. فأين السندريلا وأين دفعة لندن؟

تكتب المؤلفة هبة المشاري على تتر المسلسل في الحلقة السادسة والعشرين منه مخاطبة المشاهد "أنت تريد نهاية تعفيك من الترقب، وهذا ما سأعطيك إياه، بالرغم من ثقله على قلبي". وفي الواقع حمولة المسلسل كلها ثقيلة وخانقة، فكثرة الشخصيات غير السوية، وكثافة الأجواء الكئيبة، والخفوت في نبرة الإخراج، هذه كلها بكفة، وعدم وجود قصة حب سوية في كفة أخرى، فقد أطلقت المشاري يدها في التغريب حتى داخل قصص الحب نفسها، هذا بجانب جرعة إجرام مكثفة لا تحتملها حياة طلاب مغتربين، أو طالبات كلية طبية تورطن في مشاكل عجيبة غريبة بعضها مثير للانزعاج الشديد.. أكثرها غرابة بالطبع كانت ما حدث للطالبة الكويتية المتدينة خديجة أثناء إجرائها منظارا للقولون، اتضح لاحقاً أنه حقن مجهري تسبب به اختلاط أوراقها مع أوراق مريضة أخرى، مما أدى إلى أن تحمل جنيناً بدون زواج.

هذه الشطحة هي القشة التي قصمت ظهر الجمل، ليس لأن الإجراءين (القولون والحقن المجهري) لا يتمان بالمكان نفسه وليس لأن الجنين المزروع هو من عائلة يهودية، ولكن لأن خديجة المتدينة المحجبة لم تهتم لهذا الخطأ على الإطلاق، بل تعاطفت معه وعاشت معه بسلام لحين الولادة دون أن نعرف كيف أو لماذا تم ذلك، فأين السندريلا التي تحدث عنها المؤلفة، وأين دفعة لندن؟