دلالات فوز حركة النهضة فى تونس

النهضة جزء من الفضاء العام لحركة الإخوان المسلمين حتى وإن كانت قد أعلنت الانفصال عنها كما فعلت حماس غير أن الجديد هو إعلانها في 2016 عن الفصل بين الدعوي والسياسي.

بقلم: رياض حسن محرم

 أخيرا، أفصحت صناديق الاقتراع عن نتائجها في الانتخابات البلدية في تونس، التي أبرزت تقدم حزب حركة النهضة عن بقية المنافسين بما في ذلك حركة نداء تونس، ما يعكس بدرجة كبيرة استقرار المجتمع التونسي معتمدا التعددية وتداول السلطة، مهما كانت خلافاتنا مع ما تفرزه صناديق الانتخاب لكن يجب أن نعترف أنها في المحصلة الأخيرة تمثل نتاج حركة الديموقراطية، كما ليس لدّى أي مشكلة فيمن ينادون بأن العملية الثورية لا يجب أن تعترف بالديموقراطية التي تمثل " في رأيهم" تعبيرا عن الفكر البرجوازي وأداة من أدواته، وأن الإيديلوجية الثورية يجب أن تطبق نوعا مختلفا تماما من الديموقراطية وتطبق القانون الثوري على المجتمع كما حدث في كل الثورات الحقيقية عبر التاريخ، أقول من حقهم تبنى هذا الرأي لا فرضه بالقوة على الجميع، وللحقيقة فقد رفضت جماعة الإخوان في مصر نصيحة راشد الغنوشي لها بقبول الانتخابات المبكرة وقبول نتائجها أيا كانت بدلا من الانتحار السياسي، ولكنها في الواقع فضلت الانتحار.

تبقى حركة النهضة جزء من الفضاء العام لحركة الإخوان المسلمين حتى وإن كانت قد أعلنت الانفصال عنها كما فعلت حماس، غير أن الجديد هو إعلانها في 2016 عن الفصل بين الدعوي والسياسي، والانفتاح على قوى وفئات جديدة خارج دائرة الحركة، وهذا تقليد لما اتخذه حزب العدالة والتنمية فى المغرب، ويبدو أنها قد بدأت بالفعل في تطبيق هذا الفصل بشكل حقيقي وليس كما فعل حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان في مصر، وقد أثارهذا التوجه في بدايته ارتيابا في بعض الأوساط النهضوية التي خشيت من أن يؤدي إلى ابتعاد الحزب عن توجهاته الإسلامية التقليدية، لكن الانتخابات البلدية الأخيرة وفرت فرصة عملية للنهضة كي تقطع خطوات جدية باتجاه ترجمة التوجهات السياسية التي أعلنت عنها في مؤتمرها العاشر، مثلما أتاحت للتونسيين اختبار مدى جدية التوجهات الجديدة للحزب وحجم تقدمه في الانفتاح السياسي على فئات مجتمعية جديدة خارج قاعدتها التقليدية، وفِي هذا السياق، تم ترشيح النهضة لشخصيات نسوية مستقلة ومن غير المحجبات على راس قائماتها في الانتخابات البلدية في العديد من الدوائر الانتخابية، في نفس الوقت فإن مرشحي النهضة في مختلف جهات البلاد كانت مناصفة بين المنتسبين للحزب والمستقلين من النساء والرجال والشباب، لكن ظلت حركة النهضة متهمة من المخالفين بأن ما تقوم به مجرد مناورة، وهكذا تظل النهضة متهمة في كلتا الحالتين، فهي إما متهمة من خصومها بكونها قوة دينية تقليدية ومجرد فرع من فروع الإسلام السياسي المناهض لكل قيم الحداثة والديمقراطية، أو مدانة من بعض أعضائها بخيانة أصولها وتوجهاتها الإسلامية، لقد ساهم ذلك التحول فعليا في ضخ دماء جديدة في الحياة السياسية التونسية، من خلال دخول وجوه وقيادات جديدة للمشهد السياسي والحكم المحلي، مثلما أعطى زخما وحيوية للنهضة، حيث تصدر هؤلاء حملاتها الانتخابية وعملها التواصلي الميداني، أن انفتاح النهضة على مختلف الطاقات، بما فيها غير المتحزبين والمستقلين، وخصوصا من النساء غير المحجبات، يعكس توجها سليما يستوعب قاعدة اجتماعية موسعة ويعكس حالة التعدد والتنوع التي توجد في المجتمع التونسي.

المجتمع التونسي شديد الانسجام ولا تشقه صراعات طائفية أو دينية، وما يشغله حقيقة اليوم ليس سؤال الأسلمة أو العلمنة (فهذه قضايا النخب) بقدر ما يهمه الارتقاء بأوضاعه المعيشية والتنموية، من تعليم وصحة ونقل وشغل وتحسين للقدرة الشرائية وغيرها، ولابد من الاعتراف أن موقف حركة النهضة فى مؤتمرها العاشر بفصل العمل الدعوى بشكل نهائي وتام عن العمل السياسي كحزب مستقل يعد في حقيقته جرأة متناهية وتجديف في الفراغ راهن عليه ويبدو أنه كسب الرهان، ليس فقط بسبب تماسكه ووحدته لكن أيضا بسبب تفكك وضعف تيار النهضة نتيجة الانقسام والانشقاقات المستمرة منذ مولده، ناهيك عن الضعف البنيوي الممثل في اليسار بعنوان حركة النهضة التي لم تحرز إلاّ نسبة تقل عن 5% من الأصوات، بينما فاق ما حصلت عليه النهضة عشرة نقاط عمّا حصل عليه نداء تونس، فحصلت النهضة على 34.6% ونداء تونس على 24.4% على التوالي.

يعني “الخروج من الإسلام السياسي” كما ذكر الغنوشي في المؤتمر شيئين: الأول هو التخلي عن نموذج الحركة الإصلاحية الإسلامية المُوحَدة الشاملة، التي تنخرط في أعمالٍ سياسية، ودينية، وتعليمية، واجتماعية، وثقافية. لقد كان جوهر العديد من الحركات الإسلامية التي ظهرت في القرن العشرين هو تحقيق “نهضة حضارية” عن طريق الترويج إلى العديد من الإصلاحات في العديد من المجالات المختلفة (مثل التعليم، والعلوم، والقانون، وإصلاح المؤسسات الدينية)، اعتماداً على العديد من الطرق المختلفة (مثل الدعوة، العمل المجتمعي، المراكز الشبابية، المبادرات التعليمية)، ويمكن ملاحظة هذا النموذج في هيكل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث كانت تمتلك الجماعة شبكةً واسعة من المنظمات التعليمية والخيرية التي تساهم في مهمة الإصلاحيين المسلمين، وتضمنت كلمة الغنوشي في المؤتمر رسائل محورية بخصوص توجهات الحزب المستقبلية) الدول الحديثة لا تُدار بالأفكار والشعارات الفضفاضة والمزايدات، بل بالبرامج والحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تحقق الأمن والرفاهية للجميع). يدل ذلك على إعادة تنظيم دور الحزب بإبعاد تركيزه عن إعادة إصلاح أخلاق الشعب التونسي، وتوجيهه إلى العمل على إعداد سياسات تناسب احتياجات التونسيين المادية اليومية – أو كما قال أحد المُعلقين" التخلي عن سياسات الهوية والتركيز على الخبز والزيت"، حقيقة الأمر هو تحول الحركة الى حزبٍ سياسي منفتح يضم التونسيين من كافة الخلفيات، سواءً أكانوا متدينين أو غير متدينين.

إن ما حدث لحزب النهضة لا يعدو التخلي عن العنف وأي نية للثورة، وقبول المؤسسات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية القائمة… والالتزام بالانتخابات والإجراءات البرلمانية كقنواتٍ للحصول على السلطة ولعرض سياساتهم؟ ومحاولة لفهم ما جرى على وجه التحديد يجب العودة إلى تاريخ نشأة وتطور تلك الحركة، فقد ظهرت “حركة الاتجاه الإسلامي”(الاسم السابق لحركة النهضة)، في السبعينات لمجابهة نظام الحبيب بورقيبة الذي قاد تونس منذ الاستقلال عام 1956 الى عام 1987. لقد كان هدف الحركة منذ نشأتها أن تواجه ما رأته مشروعاً لبورقيبة يهدف إلى فرض قيمٍ غربية وإلى طمس هوية وتراث تونس العربية الإسلامية. تمحورت معارضتها للنظام حول القضايا الدينية، والاجتماعية، والثقافية في بادئ الأمر، إلا أنه مع الوقت انخرطت الحركة في الضغط على النظام بخصوص قضايا أوسع متعلقة بالإصلاح السياسي، وبالتقلبات السياسية.

اُستدرجت الحركة بشكلٍ متزايد تجاه مناقشاتٍ أوسع بخصوص الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تشمل الديموقراطية وحرية تكوين الأحزاب وحرية التفكير والتنظيم، تحديداً عن طريق أعضائها من الطلاب الذين نضجوا في عهد تأججت فيه القضايا السياسية والثقافية في حرم الجامعات التونسية، ومنذ نشأة الحركة عملت كحركة سرية داخل تونس، وحزباً سياسياً في المنفى بالخارج. وتركزت أنشطتها بشكلٍ كبير على التظاهرات ضد نظام بن علي، بجانب تقوية الروابط مع الحركات المعارضة الأخرى، ومنظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، والعمل على لفت انتباه العالم لانتهاكات حقوق الإنسان والقمع الذي يرتكبه النظام في تونس، وفى أعقاب ثورة الياسمين مباشرة وجدت النهضة نفسها فوق كراسي الحكم في أكتوبر من نفس العام بسيناريو قريب لما حدث للإخوان المسلمين في مصر وذلك من خلال ارتداء مسوع المظلومية وترويجها لدعاية أنكم جربتم جميع الاتجاهات ماعدا الاتجاه الإسلامي، والميل العام إليها بصفتها الجسم الأكثر تنظيما في المجتمع ورفضا للاتجاهات السلفية المتشددة، وهكذا فإن التسوية الجديدة، التي ساهمت النهضة في تشكيلها، تلتزم بتحرير الدين من سيطرة الدولة، ولكن السياسة أيضاً يجب أن تتحرر من سيطرة الدين. ومع هذه التطورات، انتهى جزء من مهمة النهضة الأصلية باعتبارها حركة اجتماعية تقاتل من أجل الحريات الدينية، لذا فإن حركة النهضة تُظهِر رغبة واضحة من جانبها لتأسيس نفسها حزباً وطنياً في مركز الحياة السياسية، وليس حزباً دينياً. في الواقع، وحتى في مجال مناقشة حظر ارتداء النقاب فقد شددت الحركة على أنه أي تقييد لحرية اللباس تفرضه ظروف البلاد الأمنية يجب أن يحترم الحقوق المنصوص عليها في الدستور من تحقيق الحريات الفردية.

إن هذه الخطوة التي اتخذتها النهضة محفوفة بالمخاطر، فبتبني خطاب غير ديني، تخاطر الحركة بفقدان أنصارها، وكذلك بإخلاء الأرض التي يمكن أن تشغلها للأحزاب الأكثر محافظةً وتطرفا، كذلك فإن إشارات النهضة الواضحة على أنها ليست حزباً دينياً تترك مساحة مفتوحة لظهور أحزاب جديدة تلبي حاجة بعض الناخبين إلى حزب ذي أجندة دينية قوية، وتخاطر النهضة بهذا التعريف المحدود الجديد بتضييق قاعدة مؤيديها، وتخاطر كذلك بفقدان بعض شخصياتها العامة المعروفة بسبب الاختيار الصعب بين الأنشطة السياسية والدينية، لذا فإنها قبل إعادة تموضعها كحزب وطني على يمين الوسط، مفتوح للتونسيين من جميع الخلفيات الدينية وغير الدينية، تأمل النهضة في بناء قاعدة شعبية أوسع والوصول إلى شرائح أخرى من المجتمع كانت تنفر من النهضة باعتبارها حركة دينية أو اجتماعية، إن أحد محاور هذه الهوية الجديدة هو مفهوم “المصالحة”، أو إيجاد توازن جديد بين الحداثة والتقاليد، وبين الدين والأمة، وبين الإسلام والديمقراطية، لعلهم يفلحون .. السلام عليكم.

رياض حسن محرم

كاتب مصري