دلال صماري تعيد ضبط تردداتها لالتقاط الذات المفقودة
في هذا الكم الهائل من التبدلات والمتغيرات الحثيثة والتي تحفر في العقول وفي الجغرافيا والأمكنة والعناصر لتقول بالذهول والدهشة والحيرة الكبرى يقف الفنان بما يتمثله من حلم وقيم وإدراك ونزوع نحو الجمال ومشتقاته صامدا لا يلوي على غير القول بالنشيد والسفر مجالين لإضفاء مسحة من الوجد والشجن والسحر قبالة أحوال ينهشها الإحباط ويستبد بها القلق حيث لا مجال لغير التفكر والتسلح بذاكرة الأشياء والعناصر والتفاصيل... هكذا هي فكرة الفن منذ القدم وفي حيز من شواسعها وعوالمها المتعددة.
في هذا المجال من التعاطي الفني الجمالي يبتكر الفنان ممكنات شغله الإنساني، حيث الفن حاجة بشرية قديمة للتواصل والتعبير والإفصاح عن الكينونة.. ومن نداءاتها هذه المواءمة بين الفن كمعطى جمالي واشتغالاته صلب الواقع وما يحف به ومتغيراته الجمة تماما مثل الشعر وهو يبحث عن مجاريه بل يؤسسها مثل مياه النهر تنحت مساراتها في الصخر..
والفن هنا حكاية تستعيد الوظائف وتعلي من شؤون المهمل والمتروك لتجعل من الجمال قولا فصلا بين الحالة والآلة في سياقات تبدلات تقنية تلغي العناصر وتهمل التفاصيل لتلهو فقط بالحديد، حيث الكل أمامها مجرد أرقام ومواد لن تصلح في قادم الأحوال والأزمنة.. وهنا وحده الفنان من يستعيد القيمة ويجددها حيث يعيد النظر ويجدده لتتجدد معه وبه الأشياء وفي حالة من البهاء المفعم بالجمال يهدينا فنا نبيلا وعميقا يعيد به للعناصر ألقها ويحيي شيئا من ذاكرتها المهملة بل المفقودة.. هي لعبة الفن تجاه الفقد والتجدد والابتكار...
وهكذا فعلت فنانتنا الباحثة دلال الصماري في تعاطيها الجمالي لتأخذنا إلى عوالم الفقد والأثر وسؤال التجدد والاستعادة وفق رؤيتها الجمالية المشتغلة عليها وفيها لسنوات.. وذلك في فعلها الفني "ترددات مفقودة" الذي هو معرضها الفني الشخصي المتواصل برواق يحي للفنون بتونس العاصمة ضمن الفترة من 20 مايو/أيار إلى 15 يونيو/حزيران 2023 لنسافر معها في عنفوان فكرتها الجمالية الباذخة والتي استغرقت جهدها وبحثها لمدة أكثر من ثلاث سنوات بتقنية الرسم الزيتي والكولاج على الحديد حيث تتركز الفكرة الرئيسية للمعرض حول العلاقة بين الذات وما كابدته داخل عالم متحرك من حولها، تفقد في كثير من الأحيان تردداته فتسعى جاهدة لإعادة التقاطه من جديد في كل مرة حسب نظم جديد للأحداث المتغيرة باستمرار...
الفنانة التشكيلية والباحثة دلال صماري وفي هذه التجربة عادت بل ذهبت إلى الصحون واللاقطات الهوائية التي تركها الناس وعبثت بها العوامل المتعددة بعد أن كانت محل الذبذبات والتقاط القنوات والاتصالات لتعيدها إلى وظائفها في شكل مختلف لتعود إلى بث الفن والجمال في شكل يتماهى مع الفن المعاصر وبمضامين جمالية أخرى بعيدا عن عادات القماشة واللوحات حيث الصحن الهوائي فسحة للتشكيل بتلوينات بها رمزية وتأويلية منها ما يقول بالفن حين يبتكر مجالاته وعناصره خارج المألوف وما تعارف عليه القوم.. تجربة فنية جمالية تصرخ بوجه العولمة والاستهلاك الفوضوي في هدوء وبخطاب عميق غاية في الابتكار والبهاء...
وعن هذا الشغل الجمالي والخصوصية والمعرض برواق البالماريوم تقول دلال "ترددات مفقودة معرض فني يعرض برواق يحي للفنون بتونس العاصمة من 20 مايو/أيار إلى 15 يونيو/حزيران 2023، دامت مدة الاشتغال عليه أكثر من ثلاث سنوات بتقنية الرسم الزيتي والكولاج على حديد حيث تتركز الفكرة الرئيسية للمعرض حول العلاقة بين الذات وما كابدته داخل عالم متحرك من حولها، تفقد في كثير من الأحيان تردداته فتسعى جاهدة لإعادة التقاطه من جديد في كل مرة حسب نظم جديد للأحداث المتغيرة باستمرار".
وتضيف "ذات تأزم الوضع من حولها بحكم ثورة جلبت معها صراعات الفرقاء وأفرزت أزمات اقتصادية واجتماعية ونفسية جعلت هذه الذات تدور في فلك دائري يلف حول نفسه حبالا لا تنبئ بخلاص مرتقب وهذا ما نتج عنه الكثير من ردود الأفعال التي جاءت بمثابة هجرة شرعية وأخرى غير شرعية، انتحار، مظاهرات وتجمعات، عنف وانقسامات حسابات ومصالح والكثير من المغالطات الإعلامية والإشاعات، وهذا ما أجج بداخل الفنان شغف التعبير والالتزام تجاه فترة زمنية عايشها ولا يمكن أن يكون محايدا أو غير متفاعل معها خاصة بعد أن أخذ المسافة الزمنية اللازمة لتفادي الانزلاق في متاهة التسرع واستسهال العملية الفنية".
وتتابع "لم يكن اختيار المحمل فقط من أجل التغيير أو التنويع بل لخدمة خصوصية الموضوع والمفهوم فالصحون الهوائية أدت في فترة ما وظيفة البث وعندما انتهت مدة صلوحيتها رميت في مصب الخردة ومن هنا ستبدأ مهمة البث الجديدة عندما تصبح أداة في يد الفنان سيكتب عليها وحولها نصا بصريا مدججا بالمعاني والرسائل والمضامين التي ضاقت بها الذات خلال هذه العلاقة المسمومة مع وقعها المتلون وغير الثابت، ستمسك الذات الفاعلة الفنان هنا بذبذبات بث ثابتة لتعيد إرسالها عبر أقمار ملونة لتخاطب ذهن المتلقي من خلال عملية تراسل ثنائية تخلص الذات من عزلتها المفروضة نحو عوالم الخيال واللغة الجمالية التي تفتح دائما للذهن مساحات جديدة لمواجهات أعمق وأكثر قربا من جوهرها، حيث يدخل الفنان معترك تطويع هذا المحمل المعدني بكثير من البحث والتجريب والمكابدة حيث سبقت عملية الرسم والإبداع عليه عملية التقاط وتنظيف وتجهيز، من ثم التخطيط لمجموعة متكونة من 15 عملا تمحورت فكرتها حول خلق علاقات تراسل وتواصل فيما بينها بحيث يسحب القارئ من عمل لآخر وفق نظم محكم للأبعاد التشكيلية والجمالية والرمزية، كما وفق فلسفة ومرجعيات فكرية تطرح بأسلوب معاصر يخرج الأثر الفني من نمطية الأساليب الكلاسيكية ويجعله قادرا حتى على التفاعل مع مرور الزمن بمثابة كائن حي لا يبقى جامدا تجاه ما يحيط به لتبدأ من جديد عملية التأثر والتأثير التي تجعل منه أثرا ملتزما وقادرا على مخاطبة المتلقي في كل مرة بتمظهرات جديدة".
ودلال صماري أستاذة مساعدة بالتعليم العالي، فنانة تشكيلية وناقدة، أصيلة ولاية سيدي بوزيد وتحديدا منطقة منزل بوزيان، حاصلة على شهادة الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وقامت بتدريس الفنون بعدد من المعاهد العليا للفنون والحرف بسليانة وقابس وتطاوين، وأشرفت على تنظيم العديد من التظاهرات العلمية والفنية، كما كتبت حول الفن العديد من المقالات بالنشريات منها قراءات صادرة بمجلة الأطام السعودية سنة 2012 وقراءات أسبوعية بجريدة الوطن العمانية طيلة الفترة الممتدة بين 2013 و2018 وقراءات في مجلة التكوين العمانية منذ 2016، إلى جانب العديد من المداخلات العلمية حول الفنون داخل تونس وخارجها، ولها معارض فردية وجماعية ومشاركات محلية بمختلف جهات الجمهورية كعضوة في جمعية أنير للفنون التشكيلية وجمعية فنون الواحة وثقافاتها ومعرض فردي "كفن" برواق الفنون بجربة ومع اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وأيضا جمعية رقش للثقافة والفنون والتصميم.
وعن المعارض والمشاركات الدولية نذكر المشاركة في أتلييه الأصمغ الدولي في دورته 15 بالدوحة (قطر) خلال الفترة الممتدة من 8 إلى 12 مارس/آذار 2015، والمشاركة في الصالون الدولي للفنون التشكيلية بولاية سطيف الجمهورية الجزائرية الشعبية 2015، والمشاركة في ملتقى بوزنيقة (المغرب) من 13 إلى 17 مايو/أيار 2015 من تنظيم محترف وغاليري 86، والمشاركة في مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية بدولة الإمارات العربية المتحدة الدورة 18 سنة 2015، والمشاركة في ملتقى متحف بيت الغشام الدولي للفنون بسلطنة عمان 2016، وبصالون الفنون الراهنة بمسقط 2016، وبمعرض "لقاء" نظمته السفارة التونسية بسلطنة عمان خلال ديسمبر/كانون الأول 2016 بقاعة عرض المركز الثقافي العماني، وبملتقى دير جبل الطير الدولي للفنون الذي نظمته جامعة المنيا بمصر من خلال كلية الفنون الجميلة 2018...
تجربة ومعرض حديد بعنوان "ترددات مفقودة" وعمل ونشاط تشكيلي ضمن بحث مفتوح ومتواصل للفنانة والباحثة الدكتورة دلال صماري حيث فضاءات رواق الفنون بالبالماريوم تتحلى بجملة أعمال فنية تطرح رؤاها وأسئلة فنها وجمالتها وكذلك أسلوبها في نهج متخير ومشتغل عليه بعناية ودأب... يتواصل المعرض إلى غاية يوم 15 يونيو/حزيران 2023.