دوما: خيانة هذا الغرب

تنكرُ موسكو الهجوم بالأسلحة الكيماوية على دوما. أنكرت قبل عام هجوما مماثلا على خان شيخون كما هجمات متعددة سابقة ولاحقة على أهداف أخرى. لم يحدث أمر دوما في عرف روسيا، لا ضحايا ولا اختناقات، والحكاية مختلقة ذات أبعاد هوليودية متخيلة، وإذا ما أقرت بغازات محظّرة استخدمت في موقع ما فذلك مؤامرة يستخدمها الخصوم فينفثون غازاتهم على قومهم لعل في ذلك استدراجاً لقوى عظمى تقلب موازين القوى ضد النظام في دمشق.

ووفق الرواية الروسية لم يحدث هجوم الغوطة الكيماوي عام 2013. الغربيون وّثقوا الأمر وهددوا وتوعدوا وشحذوا السيوف إلى أن وجد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مخرجاً قدمته موسكو: "نحن نتكفل بسحب كامل الأسلحة الكيماوية لدى النظام السوري". لكن لماذا ترضى موسكو بمهمة "ظالمة" تقضي بتجريد دمشق "المظلومة" من ترسانتها الكيماوية بسبب جريمة "لم تقترفها" وجرم "لم يحصل".

وللإنكار الممل حجج الصغار. من أسئلة موسكو البريئة: ما مصلحة روسيا في قتل سيرغي سكريبال، عميلها السابق، عشية الانتخابات الرئاسية؟ ومن حجج علماء روسيا أنه لو كان الغاز المستخدم في محاولة الاغتيال فوق الأراضي البريطانية روسيا لكان الهدف قد قتل هو وابنته والشرطي الذي وجدهما في حالة الإغماء إضافة لعشرات آخرين من سكان المنطقة. الأمر فبركة بريطانية تارة، ومحاولة القتل ارتكبتها أجهزة لندن وواشنطن تارة أخرى، ناهيك عن أن لائحة الروس المعادين لسلطة الرئيس فلاديمير بوتين الذي يتساقطون في ظروف ملتبسة داخل بريطانيا إنما هي رجس من عمل الغرف المجهولة.

تنفجر الجريمة الفضيحة في دوما. جثث تنقل الصور تكدسها ومأساة حالها. المعارضة السورية والمنظمات الإغاثية تتهم النظام السوري فوراً قبل أن تستفيق أجهزة المخابرات الدولية فتقدم روايتها مؤكدة رواية أهل دوما المنكوبة. بالمقابل تهرع موسكو وقبل أن تستفيق أجهزتها على أية رواية إلى نفي الحدث: "جنرالاتنا لم يجدوا شيئا والنظام السوري بريء من ذلك العمل". فإذا ما كانت روسيا تطالب المجتمع الدولي بتحقيقات تستغرق أشهراً وربما سنين حتى تجد الجانب والرأس المدبر فكيف لها أن تجزم في أمر براءة المتهم بعد دقائق من الجريمة مستغنية عن نتائج أي تحقيق.

بدا أن الانحدار الروسي صار صبيانيا يشبه سوقية صغار المنحرفين. تنبهت الصين إلى خواء أخلاقي مربك في الدفاع عن نظام بشار الأسد. بيان بكين جاء في إخراج جديد لافت. لم تنكر الصين الحدث الجريمة ولم تتورط في الدفاع عن طرف أو اتهام طرف آخر. طالبت بكين بتحقيق لكشف الحقيقة. تنبهت موسكو إلى خيبتها ودفعت نحو مجلس الأمن بمشروع قرار لتشكيل آلية تحقيق وفق المعايير الروسية. وعلى الأقل موسكو هذه المرة تعترف بأن هناك جريمة ارتكبت تستحق تحقيقا يهتدي إلى الفاعلين.

الإنكار الروسي يأتي متكاملاً مع وربما متناسلا من الإنكار الذي أدمن نظام دمشق على انتاجه منذ انفجار الصراع في ساعاته الاولى. لا ثورة ولا ثوار. لا معارضة ولا محتجون. هم مندسون، إرهابيون، داعشيون قاعديون، عملاء إسرائيل والغرب القذر. حتى حين يذهب بشار الجعفري رئيس وفد النظام إلى أي مفاوضات، فلا يجد وفداً معارضاً للتفاوض معه، بل قتلة مجرمين يشتمهم متوعداً إياهم ببئس المصير. وبئس المصير براميل متفجرة وغارات مدمرة وأسلحة دمار شامل لا تصدر عن دمشق ولا تراها موسكو.

حين اغتيل رفيق الحريري عام 1995 خرج الأسد نافياً أية مسؤولية لنظامه في ارتكاب الجريمة. في حجج الإنكار أن ما مصلحة النظام السوري في تأليب العالم ضده جراء استهداف شخصية بحجم الحريري في لبنان؟ وفي حجج الإنكار حول دوما أن ما مصلحة نظام دمشق في ارتكاب حماقة من هذا النوع في وقت تبدو فيها الغوطة الشرقية ساقطة عسكريا لصالحه؟

ارتكب النظام السوري بقيادة الأسد الأب ثم الابن سلسلة لا تحصى من الاغتيالات ضد خصومه السوريين والعرب والدوليين على مر العقود المنصرمة. ومن السهل تذكر اغتيال المعارضين السوريين في عواصم العالم كما اغتيال الشخصيات التي كان قريبة من نظام صدام حسين كما تلك القريبة من زعامة ياسر عرفات، كما اغتيال السفير الفرنسي في لبنان، كما اغتيال شخصيات لبنانية لم تبدأ بمفتي الجمهورية اللبنانية ولم تنته بالحريري.

وما جرى أن العالم سكت بشكل منهجي على هذه الجرائم ولم يحرك ساكناً ضد سلوك بات من كلاسيكيات حكم الاستبداد في سوريا كما في أي بلد آخر. وما حصل إثر اغتيال الحريري أن المجتمع الدولي "خان" عهوده مع دمشق ووقف مزمجراً ضد نظامها على نحو دفع برئيسها لتقديم حجة البراءة: كيف نرتكب خطيئة تقلب ضدنا العالم؟

هي الخيانة نفسها يرتكبها العالم الغربي هذه الأيام. لم يحرك هذا الغرب ساكناً منذ أن اندفع سفراء واشنطن وباريس ولندن لنصرة المتظاهرين في حمص في بدايات الحراك الشعبي ضد النظام عام 2011. اعتقد السوريون حينها أن لاحتجاجاتهم رعاية أممية، ففوجئوا بعد ذلك بإن "العالم الحر" بقيادة الولايات المتحدة انسحب من الشأن السوري تاركاً مصير السوريين للعبث والفوضى وللميليشيات والجماعات التي تحج إلى بلادهم من كل حدب وصوب.

ارتكب النظام معاصيه الكيماوية دون رادع أو عقاب، فيما تولت روسيا دائماً تدبير الأمر داخل قاعة مجلس الأمن تمطره الفيتو تلو الآخر، أو داخل الغرف المغلقة تعد العواصم بترتيب الوضع في سوريا من خلال ارتكاب ما لا تقوى تلك العواصم على ارتكابه. فإذا ما كانت جريمة دوما من عاديات الامور كما هي جريمة اغتيال الحريري فـ "خيانة" الغرب الرافض لجريمة بيروت التي ارتكبت في 14 فبراير 1995 هي نفس "الخيانة" حيال جريمة اكتشف العالم دناءتها في 7 أبريل 2018.

قد لا يتغير الشيء الكثير في تلك الاستفاقة المفاجأة لهذا العالم على المأساة في سوريا. بيد أن شيئا ما تغير في قواعد العمل الدولية في مقاربتها للشأن السوري، وربما أن شيئا ما تغير في قواعد "لعبة الأمم" التي بدت دون قواعد في السنوات الأخيرة.

يستعيد العالم الغربي كينونته كحلف تجمعه قيم ومصالح وإيقاعات مشتركة. تصدع الغرب كمفهوم سياسي منذ ظهور تباين في وجهات واشنطن ووجهات أوروبا. تصاعد الجدل الجاري حول مستقبل الاتحاد الأوروبي ومستقبل بريطانيا خارجه. باتت روسيا جزءا من المشهد الداخلي لدى بلدان هذا الغرب تتدخل أذرعها في انتخابات رئاسية أميركية ساقت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وفي استفتاء بريطاني أنتج البريكست الشهير، وتقتل غازاتها عملاءها السابقين في هذا البلد.

تبدو اللحظة السورية مناسبة دولية لإعادة ترتيب شؤون العالم وفق قواعد ومعايير جديدة. تتصادف تلك اللحظة في وقت يميل فيه الغرب بقيادة واشنطن للتفاوض مع كوريا الشمالية بالشراكة مع الصين، ويميل نفس هذا الغرب للتشدد مع إيران ربما بالشراكة مع روسيا. لا تملك تلك الأخيرة إلا الإمعان في إنكار الجرائم التي ترتكبها دمشق وطهران في سوريا لعل في غضب الغرب على العاصمتين ما يحسّن من شروط شراكة موسكو الصعبة مع ذلك العالم الغربي الذي استفاق غاضباً.