ديبوا والحرية الثقافية

بعد سنوات طويلة من النضال استطاع ذوو البشرة السوداء في الولايات المتحدة اقتناص حريتهم المسلوبة.
ديبوا اختلق للمجتمع الأسود طريقة منهجية للانخراط في المجتمع الأبيض.
الحريات الزائفة والهويات المهلهلة التابعة هي السبيل للرق الناعم في العصر الحديث

د. نعيمة عبدالجواد

كثيراً ما نسمع مقولة "لا يموت حق وراءه مطالب"، وتلك المقولة صحيحة تماماً، بالنظر للمجتمع الأفريقي - الأميركي الذي في بداية نشأته عمل بتلك المقولة، ومن ثم، خلّص نفسه من شرك التبعية. فلم يكن من السهل أبداً لهذا المجتمع أن يؤكد هويته، ويبرز ككيان مستقل في مجتمع يستنكر وجوده، فقط لاعتقاد المجتمع الأبيض أن ذوي البشرة السوداء ليسوا جديرين بتخويلهم أية حقوق. ولكن بالفعل حظي ذوو البشرة السوداء على حقوقهم بعد جهود مضنية بذلتها شخصيات كرست جهودها، وأفنت عمرها في المناشدة بتحقيق العدالة.
فبعد سنوات طويلة من النضال، استطاع ذوو البشرة السوداء في الولايات المتحدة في نهاية المآل اقتناص حريتهم المسلوبة. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، تم الإعلان عن دمجهم في غمار المجتمع الأميركي على جميع الأصعدة. ومع ذلك، لم يتم العمل بتلك التشريعات، ولم يتم تفعيل مبادئ الحرية والتكامل على أرض الواقع دون وجود علامات بارزة من ذوي البشرة السوداء كافحت لحث أقرانها على مواصلة جهود المطالبة بالحقوق وتحقيق المساواة، فلقد أصرّت تلك الشخصيات على تصوير أن كل حلم قابل للتطبيق، إذا تم الإخلاص لهذا الحلم. ومن ثم، لسوف يصير من الممكن تحقيق الأحلام فقط إذا تم تحسين الظروف المحيطة بالمجتمع الأسود، وكنتيجة حتمية لذلك، لسوف يصير من الممكن جداً تمكينهم ليصبحوا مشاركين نشطين في مجتمع قد نفى وجودهم. 

من مؤلفات ديبوا
كان يحيا حياة اجتماعية مترفة 

ولقد اخترت في هذا المقال أن ألقي الضوء على شخصية جديرة بالاحترام من الشخصيات ذات البشرة السوداء، نظراً لما بذلته من جهود للمجتمع الأسود في الولايات المتحدة، وتلك الشخصية هي دبليو. إي. بي. ديبوا W. E. B. DuBois. وبالنظر إلى تاريخ ديبوا، نجد أنه أحد أولئك الشخصيات البارزة الذين كرّسوا جهودهم لتحقيق الحرية الثقافية للجنس الأسود في أميركا، لأنهم يعانون من ضياع حقوقهم عند أقل مواجهة مع المجتمع الأبيض. وإدراكًا من دبليو. إي. بي. ديبوا W. E. B. DuBois بأن تحقيق هوية مميزة لذوي البشرة السوداء هو احتمال بعيد المنال، فلقد ناشد هذا المناضل الثوري السلمي بخلق هوية مستقلة متفردة للمجتمع الأسود. ولتحقيق هذا بذل قصارى جهده لوضع أسس للتعددية الثقافية. وكانت أولى خطواته لوضع حلمه على أرض الواقع هي النضال لخلق ناموس للون أدبي وثقافي خاص بذوي البشرة السوداء؛ للتعبير عن قضاياهم بالطريقة التي يرونها تعبر عنهم وعن مجتمعهم. 
ولقد أكد ديبوا أنه لا يجب أن يقتصر هذا الناموس فقط على الحياة الأدبية، بل يمتد إلى الحياة الاجتماعية والسياسية كذلك. فلقد اتبع دبليو. إي. بي. ديبوا W. E. B. DuBois الطريقة الناعمة للنضال من أجل تحقيق هوية مستقلة.
ولد دبليو. إي. بي. ديبوا W. E. B. DuBois (1868-1963) في نيو إنغلاند، بولاية ماساتشوستس الأميركية، لعائلة ميسورة الحال، لم تشوبها وصمة الرق لأكثر من مائة عام. تلقى تعليمه في جامعة هارفارد وجامعة برلين بألمانيا، وحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة هارفارد في عام 1895. وعلى عكس الغالبية العظمى من أقرانه، تمكن ديبوا الذي كان يحيا حياة اجتماعية مترفة يحظى فيها بالكثير من المميزات، أن ينخرط في غمار المجتمع الأبيض على الصعيد الاجتماعي والثقافي. وبمقارنة الأحوال التي تسم كلاً من المجتمعين الأبيض والأسود، اكتشف ديبوا أن مشكلة السود تنبع من حقيقتين: أولهما، عدم قدرة المجتمع الأسود أن يحظى بتحقيق مستوى عالٍ من الثقافة، وثانيهما، قناعة المجتمع الأبيض التي تأصلت على مر السنين أن "أي فرد تسري في عروقه دماء زنجية لا ينبغي أن يقبل أي فرد في المجتمع الأبيض أن يجعله ينخرط في غمار أي من المجتمعات البيضاء، بغض النظر عما استطاع السود إنجازه، وعن الحال الذين تمكنوا من بلوغه". ولقد ذكر دبليو. إي. بي. ديبوا W. E. B. DuBois تلك الأسطر في كتابه الشهير "أرواح الأقران السود" The Souls of Black Folk الذي نشره في عام 1903.
ومن خلال ملاحظاته وجهوده، اختلق ديبوا DuBois للمجتمع الأسود طريقة منهجية للانخراط في المجتمع الأبيض. فلقد أسس وتزعم حركة نياغارا Niagara Movement عام 1903 التي تهدف إلى تخويل المجتمع الأسود حقوقا اجتماعية وسياسية متساوية مع تلك الحقوق التي بالفعل يحظى بها المجتمع الأبيض. 

وأكد ديبوا DuBois على وجوب تطوير الهوية السوداء، وتحقيق وتطوير بنية تحتية قوية ثابتة الأركان للحياة الاقتصادية للمجتمع الأسود، وأعلن أن السبيل إلى تحقيق ذلك هو تطوير نوع التعليم المقدم للمجتمع الأسود. وكما يرى ديبوا، فإن التدريب المهني يؤكد على دونية السود، وللأسف، هو النوع الوحيد من التعليم المسموح به لأي من ذوي البشرة السوداء في ذاك العصر. 
وكان دوماً ما يردد ديبوا DuBois أنه بدون التعليم العالي لسوف يصير السود مواطنين من الدرجة الثانية، ولا يحق لهم بذلك الدفاع عن حقوق المواطنة لأنهم ليسوا على القدر العالي من الثقافة التي تخولهم لذلك. وعلاوة على كل هذا، ناشد ديبوا DuBois بوجوب تمتع السود بحق التصويت على جميع الأصعدة، وهذا من أجل حماية مصالحهم. ومع ذلك، يجب ملاحظة أنه من المستحيل أن يحظى السود بحق التصويت دون فهم كامل لوضعهم ولحالتهم.
ومن ذلك يجب أن نستخلص، أنه لا يمكن تحقيق هوية مستقله بدون حالة اقتصادية قوية، والتمتع بالتعليم العالي. فلا يمكن أن يدعي أحد كونه مناضل دون أن يكون على قدر عال من التعليم والثقافة؛ وهما العنصران الأساسيان لتحقيق هوية مستقلة متفردة لأفراد أي مجتمع.
وأخيراً، فإن التبعية والهبوط للدونية لا تقتصر على المجتمع الأسود في القرون الغابرة، أو على المجتمعات المستعمرة بأي شكل من الأشكال؛ بل هي من نصيب كل من تخلّى طواعية عن حقوقه كفرد ذي هوية مستقلة. فالحريات الزائفة، والهويات المهلهلة التابعة هي السبيل للرق الناعم في العصر الحديث.