رايتس ووتش تكشف عمق الانتهاكات القضائية في ليبيا

تقرير المنظمة الحقوقية يؤكد أن القضاء الليبي يعاني من تفكك حاد وخلل بنيوي عميق تسبب في عرقلة المساءلة القانونية، وأتاح لمناخ الإفلات من العقاب أن يزدهر.
التقرير وثق انتشار الاحتجاز التعسفي لا سيما في مراكز تديرها جماعات مسلحة

طرابلس - أطلقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريراً حقوقياً صادماً يكشف عمق التدهور الذي يعانيه قطاع العدالة في ليبيا، وسط انقسامات سياسية حادة، واستمرار لغياب المحاسبة، وتصاعد انتهاكات حقوق الإنسان في ظل غياب منظومة قضائية فعالة ومستقلة.
وبحسب التقرير الصادر عن المنظمة، يعاني قطاع القضاء الليبي من "تفكك حاد وخلل بنيوي عميق"، تسبب في عرقلة المساءلة القانونية، وأتاح لمناخ الإفلات من العقاب أن يزدهر. ويأتي ذلك في ظل استمرار الانقسام السياسي بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والسلطات الموازية في الشرق بقيادة المشير خليفة حفتر، ما أدى إلى شلل فعلي لمؤسسات العدالة.
وأشار التقرير إلى أن هذا الانقسام خلق تضارباً قانونياً خطيراً، لاسيما بين المحكمة العليا في طرابلس والمحكمة الدستورية العليا التي أُنشئت مؤخراً في بنغازي، في خطوة فُهمت بأنها محاولة موازية لإعادة تشكيل الهيكل القضائي خارج الشرعية المعترف بها دولياً.
وتطرق التقرير إلى مشكلات خطيرة في نظام المحاكمات، أبرزها محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وغياب التواصل بين المتهمين ومحاميهم، وافتقارهم لإشعار واضح بمواعيد الجلسات. كما حذرت المنظمة من لجوء السلطات إلى جلسات الاستماع عن بُعد دون توفير ضمانات كافية لحقوق الدفاع، وهو ما اعتبرته انتهاكاً لحق أساسي في المحاكمة العادلة.
كما وثق انتشار الاحتجاز التعسفي، لا سيما في مراكز تديرها جماعات مسلحة وقوات شبه حكومية. ووصفت المنظمة هذه المراكز بأنها أماكن يُحتجز فيها ليبيون وأجانب في ظروف "غير إنسانية"، تشمل التعذيب وسوء المعاملة، وسط غياب تام للرقابة القضائية المستقلة، وتجاهل متكرر لأوامر الإفراج أو المثول أمام القضاء.
ومن بين أبرز التحديات التي أوردها التقرير، استمرار العمل بقوانين قمعية موروثة من عهد النظام السابق، تتضمن عقوبات شديدة مثل الإعدام والجلد وبتر الأطراف. المنظمة طالبت بإلغاء جميع القوانين المحلية المخالفة للمعايير الدولية، ومراجعة قانون العقوبات بما يسمح بتجريم الجرائم الدولية، وتحديث التشريعات لتواكب التزامات ليبيا الحقوقية.
وأكدت المديرة المشاركة لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، حنان صلاح، أن السلطات الليبية “بتقاعسها عن معالجة الاحتياجات المزمنة في الإصلاح القضائي، تدير ظهرها للعدالة وتسمح للإفلات من العقاب بأن يسود”. وأضافت أن الاشتباكات الأخيرة في طرابلس تؤكد هشاشة الوضع وغياب آليات فعالة للمساءلة، داعية إلى تحرك عاجل قبل فوات الأوان.
وفي الجانب المتعلق بالمساءلة الدولية، طالبت المنظمة الحكومة الليبية بالتعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية، وتسليم جميع الأشخاص المطلوبين لديها، بما في ذلك سيف الإسلام القذافي وأسامة المصري نجيم، اللذان يواجهان اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كما دعت المحكمة إلى إعادة تقييم جدولها الزمني في التحقيقات بشأن ليبيا، لضمان فاعلية ولايتها ومساهمتها في بناء نظام قضائي قادر على إنفاذ القانون.
وخلص التقرير إلى جملة من التوصيات أبرزها وقف المحاكمات العسكرية للمدنيين فوراً وكذلك ضمان محاكمات عادلة أمام قضاء مدني ومستقل.
كما طالب بإخضاع مراكز الاحتجاز لرقابة قضائية مستقلة وإنهاء كافة أشكال الاحتجاز التعسفي وكذلك مراجعة قانون العقوبات لتجريم الجرائم الدولية وإلغاء القوانين المحلية المخالفة للمعايير الدولية.
ويعكس تقرير "هيومن رايتس ووتش" حالة من القلق الدولي المتزايد بشأن مستقبل العدالة في ليبيا، في ظل عجز سياسي عن إجراء إصلاحات حقيقية، وواقع أمني هش يسمح بتغول الجماعات المسلحة وتدهور سيادة القانون. وبينما تستمر الانتهاكات، تبدو العدالة بعيدة المنال عن ضحايا العنف والانقسامات، في بلد أنهكته الحروب والاضطرابات لأكثر من عقد.
وفي غياب خطوات جادة نحو إصلاح تشريعي ومؤسساتي، يبدو أن طريق استعادة العدالة في ليبيا سيظل محفوفاً بالتحديات، ما لم تبادر السلطات بتحمل مسؤولياتها وإنهاء الانقسام السياسي والقانوني، وفتح المجال أمام مساءلة شفافة وشاملة لكل من تورط في انتهاك حقوق الإنسان.