"رباعية بحري" من علامات طريق الرواية العربية

نسيج رواية محمد جبريل كثيف متعدد الطبقات، تجتمع فيه تضمينات كثيرة.
فترة من تاريخ مصر مزدحمة بالأحداث والشخصيات والقوى
البحر قوة طبيعية محايدة لها منطقها الخاص الذي لا يبالي بالبشر، إن خيرا وإن شرا

في سيرته الذاتية الصادرة في أغسطس/آب 1998 "حكايات عن جزيرة فاروس" يخصص محمد جبريل فصلا ـ يقع من السيرة في المركز ـ عنوانه "بحري"، ومنه نعلم أن أعمق أجزاء الإسكندرية ـ موطنه ـ أثرا في نفسه منطقة بحري "التي تبدأ بما يلي ميدان المنشية، وتتجه إلى ميادين وشوارع وحواري وعالم حياة، في الموازيني وأبو العباس والبوصيري والسيالة وحلقة السمك والمسافر خانة والمغاوري والحلوجي والعدوي وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراي رأس التين". هذه هي البؤر الجغرافية التي تدور فيها أحداث روايته الجديدة من أربعة أجزاء "رباعية بحري" (مكتبة مصر 1997 ـ 1998). وتتكون على التعاقب من: أبو العباس ـ ياقوت العرش ـ البوصيري ـ علي تمراز. كل جزء ـ كما نرى ـ يحمل اسم مسجد يحمل بدوره اسم أحد أولياء الله الصالحين.
هذا هو مسرح الرواية، أما زمنها فيمتد من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى مطلع الخمسينيات. في المؤخرة تقوم ذكريات ثورة 1919 وقرب النهاية نسمع بإعلان حركة الجيش في 23 يوليو/تموز 1952 وطرد الملك فاروق من البلاد. الرواية بانوراما رحيبة تغوص في العالم الخارجي والعوالم الداخلية للشخوص على السواء؛ ذات نفس ملحمي عريض، فهي مصنوعة من قماشة كبيرة لا تخشى معالجة مجتمع بأكمله ولا يفقد كاتبها سيطرته على خيوطه رغم كثرتها وتداخلها، بل تلاحمها.

هذا عمل كبير، واحد من تلك الأعمال القليلة التي لا تلبث بمجرد خروجها من المطبعة، أن تدخل في قائمة الكلاسيات

هي فترة من تاريخ مصر مزدحمة بالأحداث والشخصيات والقوى: مظاهرات على الكورنيش ترفض قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، حادثة كوبري عباس وكيف أمر النقراشي البوليس بفتحه ليغرق عشرات الطلبة المتظاهرين، مظاهرات تهتف ضد النقراشي وتؤيد النحاس، فرض حظر التجول، انتشار الكوليرا (ثمة شيء يتعفن في دولة الدانمرك!)، استشهاد عبدالقادر الحسيني القائد الفلسطيني الذي قتله اليهود، دخول الجيوش العربية فلسطين، اغتيال النقراشي وحسن البنا ونسف بيت النحاس ومحاولة اغتياله، سياسات إبراهيم عبدالهادي القمعية (ارجع إلى كتاب أحمد الشرباصي: من مذكرات واعظ أسير)، ترك النقراشي وأحمد ماهر حزب الوفد ليشكلا حزب السعديين، استبدال مكرم عبيد حزب الكتلة بحزب الوفد (تذكر أن الباء تدخل على المتروك)، زواج الأميرة فتحية من رياض غالي (يعلق الشيخ عبدالحفيظ إمام المسجد على ذلك بقوله: "الإسلام لم يكسب رياض غالي، والمسيحية لم تخسر تحوله"!)، حريق القاهرة وإقالة الملك وزارة النحاس، مظاهرات ضد الملك تهتف "حذاء فريدة فوق رأس فاروق". حقا إن للجماهير، رغم سهولة انزلاقها إلى الغوغائية، حسا لا يخطئ بأقدار الرجال والنساء.
إزاء هذه الخلفية الصاخبة نجد حشدا من الشخصيات لا يقل عنها صخبا: صيادون، وصانعو مراكب، وغازلو شباك، وعاملون في الميناء، وموظفون، وشخصيات مهمَّشة وطارئة (من الشخصيات التي لا تنسى: حمادة بك، وأنسية، فضلا عن علي الراكشي ـ صياد السمك والسمان ـ الذي تستغرق تجربته الروحية ورحلته نحو التصوف جزءا من "أبو العباس" لا يُستهان به). ثمة حلقات ذكر، ومقاه، وغرف مغلقة يمارس فيها الناس فضائلهم ورذائلهم (من زبائن أنسية ـ الخادمة وبائعة الهوى في مطلع حياتها ـ من لا يبلغ قمة اللذة الجنسية إلا بعد أن توسعه ضربا؛ تسير الماذوكية ـ في كثير من الشخصيات ـ مع السادية جنبا إلى جنب). ولكن المأساة الكبرى ـ الطعم المر الذي يبقى في فم القارئ بعد الانتهاء من هذه الصفحات الألف أو أقل قليلا ـ هي مأساة أنسية التي لا تكاد تنصلح وتروم العيش النظيف بعد أن بنى بها سيد الفران وستر عليها حتى تجد نفسها عقيما لا تنجب وفي خطر أن يطلقها زوجها أو على الأقل يدخل عليها ضرة تسود عليها أيامها. إن الفصل الأول من "علي تمراز" (في انتظار ما لا يجئ) يبدأ وهي تحلم بالولد، والفصل الأخير (الآن عرفت) ينتهي وهي تسير بقدميها إلى الخطيئة مع الشيخ حماد لا شوقا إلى الدنس القديم، وإنما التماسا لبذرة مخصبة. هكذا تكتمل الدائرة ـ دون نغمة زائدة واحدة أو إغراق في العاطفية ـ وتبرز أمامنا، كأنما تحت ضوء ساطع قاس لا يرحم، أزمة هذه الشخصيات المتخبطة في شراك مصائرها.  

novel
عالم حياة

وإذا قلت الإسكندرية فقد قلت البحر، أفق المدينة وحدها: إنه ـ بإيقاعه الأبدي، إيقاع الجيشان والارتداد ـ القوة التي تمسك، كأنها خيوط غير مرئية ـ خيوط السعادة والشقاء، الرزق والإملاق. وكما هو الشأن في مسرحية سنج "راكبون إلى البحر" (وليس: الراكبون إلى البحر كما تترجم عادة) فإن البحر قوة طبيعية محايدة لها منطقها الخاص الذي لا يبالي بالبشر، إن خيرا وإن شرا. في الفصل المسمى "بعيدا عن الشاطئ" حيث يغرق زوج نهى بنت سعيد النقيب بعد تعطل موتور اللنش به، وفي الفصل المسمى "حكاية ما جرى للصياد جمعة العدوي" ـ وهو عنوان أشبه ببعض حكايات ألف ليلة وليلة مع لمسة عصرية ـ نرى كيف يكون ضعف الإنسان إزاء قوى الطبيعة وهوان شأنه عليها. ثمة رابط وثيق ـ وإن يكن خفيا ـ يصل بين إيقاع البحر وإيقاع الجسد: عند قاسم الغرياني أن انفراجة الموج لمقدمة البلانس في عناق الرحلات المتصلة ساقا امرأة تتشوقان للمضاجعة. وإزاء خلفية من مواويل الصيادين، والأغاني الشعبية السكندرية، وفولكلور البيئة الأسطوري (أسراب النورس غربان بيضاء مسخها الله لأنها تسرق طعام الصيادين، إلخ ..) نرى البحر "غولا مفترسا" على حد تعبير إسماعيل سعفان، وتكتسب قناديل البحر بعدا منذرا بالشؤم كأنها الشحارير السوداء في فيلم هتشكوك. إن محمد جبريل ـ على حد تعبير الدكتور صلاح فضل في مقاله بمجلة "المصور" ـ يكتب "الحياة البحرية من داخلها، وهي تعبق برائحة البحر حين تفوح منها رائحة الإنسان المطحون المستلب بكل أشواقه الروحية وانتفاضاته البشرية".
نسيج الرواية كثيف متعدد الطبقات، تجتمع فيه تضمينات من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وأبيات من بردة البوصيري، وحكم ابن عطاء الله السكندري، وأقوال لأبي الحسن الشاذلي وأخباره، ومدائح نبوية، وسير شعبية، فضلا عن مقتطفات ـ غير موقعة ـ من كلمنت السكندري (المرأة الجميلة ذات الذيل المتهدل)، ومخطوط مصري قديم، ودائرة معارف القرن العشرين للعلامة محمد فريد وجدي، وأغان لعبدالوهاب وأم كلثوم، وأغان شعبية سكندرية (أشهرها ـ طبعا ـ اقرووا الفاتحة لابو العباس يا اسكندرية يا أجدع ناس). 
كان من ديدني ـ بعد قراءة أقاصيص نجيب محفوظ ـ أن أترنم فيما بيني وبين نفسي: الفاتحة للعسكري قلع الطربوش وعمل ولي. ولكني تعلمت من "ياقوت العرش" أن أدندن بها برواية أخرى: الفاتحة للعسكري سبع السباع المفتري. أو لعل الأغنية الواحدة تجمع بين الروايتين في بيتين مختلفين، فهل من يدلني على محجة الصواب ..؟
ليست الشخصيات الرئيسية ـ الجد السخاوي (وهو شخصية بطريركية أقرب إلى النماذج العليا المركونة في اللاشعور الجمعي) وعلي الراكشي وحمادة بك وأنسية ـ هي وحدها التي تنال اهتمام المؤلف، فثمة لوحات أخرى، على وجازتها، تكاد تنقش ذاتها في ذاكرة القارئ نقشا لا ينمحي: الأسطى مواهب العالمة مخفورة بطبالها وزوجها وقوادها عند الضرورة، سيد المأزوم لحرمانه من الولد، .. الخ تجتمع في هذه الشخصيات عوالم الواقع والخرافة فيزيد كل منها صاحبه ثراء. ثمة ـ كما يقول الدكتور عبدالمنعم تليمة أواصر جوهرية هنا "بين الدنيوي والروحي، وبين الديني والشعبي، وبين التاريخي والأسطوري". 
والبعد الأسطوري ممتد موصول من أول الرباعية إلى آخرها، يمثل محاولة الإنسان ـ القديمة قدم التاريخ ـ فهم ظواهر الطبيعة واستكناه أسرار المجهول، ويتخذ ـ عند جبريل ـ صورا عينية قادرة على الإقناع لأنها داخلة في نسيج حياة الشخصيات وأنماط تفكيرها، وليست نتوءا يلفت النظر بشذوذه. هكذا نتقبل، دون غرابة، أشياء من قبيل إلقاء محمود الخوالقة ببقايا السيجارة في الطريق وهو يقول: دستور. ثم يقول للدهشة في وجه حسان عبدالدايم: ربما أصابت واحدا من إخواننا. عليّ أن أعتذر له؛ عروس البحر (وهي سيرسية اسكندرانية) التي يرى الجد السخاوي كيف ظهرت واختفت فجأة وأغرت المليجي عطية أن يتبعها إلى الأعماق فكان في ذلك هلاكه؟ هديل الحمام: سبحوا ربكوا .. جوزوا بنتكوا، .. إلخ.
والبعد الصوفي الذي هو بمثابة معراج يصل بين الذات الكبرى والذات الصغرى، بين عالم الشهود وعالم الغيب، ضارب الجذور في هذه الرباعية (انظر الفصل المسمى "متى بإذن الله" من "أبو العباس" وستدهش إذ ترى سعة علم جبريل بعلوم الدين وخبرته بالتصوف ومصطلحاته ومراحله وطقوسه). إن التناص الصوفي من أهم معالم الأدب الحداثي وهو يبلغ ذروته عند أدونيس العظيم (انظر أطروحة إيمان مرسال الجامعية) بينما يسف في أحيان أخرى إلى التكلف المصنوع كما في قصائد كثير من الشعراء الشبان. وكما تمكن نجيب محفوظ من أن يستخرج من كتب التصوف ـ وفيها، لا تنس، هراء كثير ـ خلاصة بديعة وضعها في فم الشيخ علي الجنيدي (اللص والكلاب) يتمكن جبريل هنا من أن يستخلص من كتب المتصوفة وتجاربهم وأحوالهم ما له دلالة وما يلقى مزيدا من الضوء على نشوات هذه الشخصيات وعذاباتها. إن أغلبها لا يعيش ـ بعيدا عن منطقة الأعراف فحسب ـ وهذا اسم أحد فصول الجزء الثالث "البوصيري" ـ وإنما هو يصطلي بنيران الجحيم دون أمل في الخلاص. ومن النص القرآني والمأثور الديني يرسم جبريل صورا رائعة لنعيم الآخرة في ثلاثة مواضع على الأقل: "اليقيني" (من: أبو العباس) "مواصلة المدد" (من: ياقوت العرش)، "رحلة الاتجاه الواحد" (من: البوصيري) فيزيدنا شعورا بقسوة النار التي يتقلب فيها رجاله ونساؤه. 

novel
أفضل أعمالي 

لغة محمد جبريل ـ وهذا من أكبر أسباب تفوقه على أقرانه ـ لغة مفتولة العضل، وثيقة البنيان، تبرع في الوصف ـ من ذا الذي يستطيع أن ينسى وصفه لقلعة قايتباي في فصل "المرأة الجميلة ذات الذيل المتهدل"؟ قدر ما تبرع في إدارة الحوار (يتحسر المرء أحيانا لأنه لم يجرب يده في كتابة المسرحية). ومن تقنياته الأثيرة استخدام قوائم طويلة تولد أثرا تراكميا، فضلا عن معمار محكم لا تنزلق معه آجرة عن موضعها، وعين يقظة إلى عالم الطبيعة وعالم النفس على السواء. شكا يحيى حقي مرة (وهو مثل محفوظ من أساتذة جبريل) من فقر المعجم اللفظي لدى أدبائنا فهم لا يفرقون بين شجرة وشجرة، ولا بين طائر وطائر، كل الطيور عندهم عصافير. في هذه الرباعية شواهد كثيرة على أن جبريل قد برأ من هذا القصور، وأن رقعة مدركاته تتسم بالتنوع والدقة والعمق في آن. هذا كاتب لا يعرف فحسب الفارق بين العصفور والنورس، وإنما يعرف الفارق بين هذين الاثنين والدقناش وسمانة الغرب والخنشع الزيتوني وفرخة الغيط والوروار والحسيني والكحلا وأبو فصادة وأبو ديل والغز والخضارى والكيش (إن استغلقت عليك هذه الأسماء، والبركة في تعليمنا القاصر، فارجع إلى السفر الجليل الذي خلفه العلامة محمد عناني ـ والد الناقد والكاتب المسرحي والأستاذ الجامعي والمترجم الكبير ـ تحت عنوان "طيور مصر" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993) كي تداوي جهلك كما تعين على كاتب هذه الكلمات أن يداوي جهله). من أجل هذا الثراء الفكري والإدراكي واللغوي نغفر لمحمد جبريل هفوات قليلة من مثل قوله: "لا نريد للشائعات أن تؤثر على نتيجة الانتخابات" (البوصيري، ص 200) (خطأ شائع صوابه في لا على)، أو نصبه ما حقه الرفع في "تعلقت قبضتا عبدالدايم القويتين على الدفة" (أبو العباس، ص 74).
يقول محمد جبريل في كتاب نقدي له ـ "مصر المكان" (الهيئة العامة لقصور الثقافة، فبراير 1998) وهو عمل على درجة عالية من الأصالة والدقة والتجويد: "أصارحك أنه لو لم تصبح رباعيتي "بحري" .. أفضل أعمالي فسأحزن لذلك كثيرا. أنفقت جهدا في استعادة الذكريات، والمشاهدة، والمتابعة، والتعرف إلى خبرات الآخرين. كان هدفي أن أقدم لوحة بانورامية لحي بحري في عمل روائي، ولم أشفق من الوقت الذي أنفقته في ذلك". 
هل لنا أن نطمئنه أنه في "رباعية بحري" لم يكتب فقط أحسن رواياته وإنما كتب أيضا عملا سيكون من علامات الطريق عند كتابة تاريخ الرواية العربية في مصر في السنوات الأخيرة من هذا القرن. إن رباعيته تقف جنبا إلى جنب مع ثلاثية نجيب محفوظ، ورباعية فتحي غانم (الرجل الذي فقد ظله) ورباعية نبيل سليمان (مدارات الشمس) وثلاثية جمال الغيطاني (كتاب التجليات) وخماسية عبدالرحمن منيف (مدن الملح) باعتبارها صورة بانورامية واسعة لحركة مجتمع بأكمله في حقبة زمنية بعينها، وتعمقا رأسيا ـ في الوقت ذاته ـ في أزمات الشخوص، ومحنها الخاصة والعامة، وتأملا فكريا عميقا في بعض ألغاز الوجود الإنساني، ونقائض السلوك البشري، مما يتكرر في كل عصر وبيئة. هذا عمل كبير، واحد من تلك الأعمال القليلة التي لا تلبث بمجرد خروجها من المطبعة، أن تدخل في قائمة الكلاسيات.