رجاء الطالبي تؤكد أن كل شيء لم يقل

الشاعرة والمترجمة المغربية ترى أن الشعر هو القول الذي ينكشف من خلاله كل شيء، أي كل ما نتلفظ به وما نصوغه في لغة التخاطب اليومي.
هناك تأويلات مجاورة، قراءات متهجية لحبري لما يخفق به

حاورها: كه يلان مُحَمد

اللغة ليست أداة للتواصل تجسر الهوة بين الذات والآخر فحسب بل هي إضافة إلى تلك الوظيفة التواصلية، فهي مادةُ لخلق العوالم وقهر مشروطيات الواقع الذي يعاني فيه المرءُ التنميط والأُحادية في الشكل طبعا تكتسبُ اللغةُ مزيدا من الطاقة الإبداعية الخلاقة في السياق الأدبي لذا لا يكون رهان الأديب إلا على اللغة للتعبير عن العوالم المتعددة بوصفها امتداداً للحياة بأشكالها المتنوعة. 
وفي اللغة الشعرية تتضاعفُ الشحنة التعبيرية في اللغة بفعل تحولها إلى عنصر أساسي في يوتوبيا الشاعر الذي يتسامي على رثاثات الواقع، ومن هنا نفهمُ ما قاله أوسكار وايلد بأنَّ عالماً لا يحتوى على يوتوبيا ليس جديراً بإلقاء النظرة عليه. وهذا لا ينفصل عما تنبأَ به الشاعر الفرنسي إيف بونيفوي لعالم يخفتُ فيه صوت الشعر فبرأيه أن البلد الذي لم يعدْ ينتجُ شعرا هو بلد بدون مستقبل.
حول راهن الشعر ومستويات التلقي للنصوص الشعرية كان لنا لقاء مع الشاعرة والمترجمة المغربية رجاء الطالبي التي صدر لها مؤخراً ديوان "قرصة على خد الخسارات" إلى جانب نشر ما ترجمته من مختارات للشعر العالمي بعنوان "كتابة الخراب" ورواية "صباح الخير إيها الحزن" لفرانسواز ساغان.
قالت: كل شيء لم يقل، هذا هو ما يمكنني قوله عندما أعود لما كتبته، وأمام آثار الطريق الذي مشيت فيه ولازلت أمشي، هناك تأويلات مجاورة، قراءات متهجية لحبري لما يخفق به، هناك ضيق في الرؤى، هناك قرب، مجاورة هناك ابتعاد وإخفاق في استعارة لسان لما يصعب قوله، هل قلت، هل أضأت المعتم في، وفي الوجود، هل نجحت، هل أخفقت، هناك هذا الفقدان للحماسة وللعنفوان، هناك هذه الحشمة، هذا الألم، الذي حاول بعض النقد من إخطاء قوله، مجمعا، مقاربا، مجردا، لم يفعل سوى أن عمق شساعة الصحراء. 

هناك مسلمة أن الوجود أبعد من حواف السماء، ومجهولا أكثر من المجهول، هناك هذا البحث الشاق وهذا الجوار الراسخ لمحاولة فك لغز الذات وفك إبهام الوجود هناك هذه الحافات المعشوقة والمغوية التي تغري بالمخاطرة والتهلكة وهذا الإدمان للرمي باليقينيات في بحر الهلاك، لأنه وحدها المخاطرة ما تمنح معنى، وما تضيء المعتم المفتقد للوجود، خاطر لتوجد ولتضيء المعتم فيك المجهول، خاطر ليمنحك الوجود إمكاناته العديدة لتكون في التعدد والتجدد، من السهل تحبير هذه الجملة هل أكتب لأمنح ضوءا لعتمات الذات والوجود، كم من الدم نزفته في الطريق لتضيء المعتم، كم اختبرت من مهاو وامتحانات صعبة لتكتشف ضوءا يمنحه لك الطريق، المعرفة لا تأتي من السهولة بل من الصعوبة ومن الاختيارات العسيرة، ما دمت لا يغويني السهل المستعد لدحرجة أثوابه والكشف عما يستبطنه. 
هناك هذه القوة التي تحركك، عنيدة، رغم ما يهددها، من كوارث، من تهاوي أشياء عديدة من حولها، بالرغم من الموتى الذين فقدتهم والذين كانوا دعامة وسند، بالرغم من إحساسي أن موتاي لازالوا يصاحبون خطاي. ليست القصيدة سوى هذه المجاورة الحثيثة لما تعيشه وما تختبره في كل الأوقات، كل ما تعيشه هو مادة لقصيدتك لا شيء يضيع، كل ما تراه وتختبره هو محك واختبار هل ستنجح لتحويل وجودك إلى كلمات مضيئة إلى كلمات تنزع من العتمة الكلمات التي تضيئها؟
وعن حالة عزوف القراء عن متابعة الشعر، قالت رجاء الطالبي: أظن ما يبعث على النفور هو الشعر السياسي وشعر المنابر الإعلامية لأنه الشعر الأبعد عن الإنسان وهمومه وأسئلته وشعر القضايا المبتزة هموم الإنسان والراكبة على أوجاعه. متى كان الشعر مدمنا على الضجيج المجاني وعلى الأضواء المزيفة وعلى الوجوه الصفيقة التي لا تستحي من جشعها وصفاقتها. إذا كان هناك قارئ عازف عن قراءة الشعر ربما لأن هذا الأخير يكتب بلغة تنزاح عن لغة اليومي ولو أن هذا اليومي هو الموضوعة الأثيرة لشعراء اليوم، لكنها قصيدة تملك سحر تحويل هذا اليومي إلى شعر، ربما لأن القارئ لا يفهم ما يكتب ولا يحس به ولا يصله، قارئ له اختيارات وميولات أخرى غير الجلوس إلى قصيدة ومحاولة فهم ما تقوله، هو في الأخير ربما قارئ كسول لا يريد أن يبذل مجهودا.
وعن فهمها للعلاقة بين العزلة والإبداع، قالت الشاعرة المغربية: قبل أن أجيب عن علاقة العزلة بالإبداع أريد فقط الوقوف في سؤالك عن هذه العلاقة بالطبيعة في ديواني والتي يتم اختزالها وتحجيمها بل طمسها في أحيان كثيرة. كيف أفسر ذهابي المستمر وبحثي الدؤوب للتواجد في قلب الطبيعة في أغلب الأوقات، ما هذا الذهاب الذي لا يتعب هذا الركض كلما سنحت الفرصة للوقوف أمام البحر أو التغلغل في الغابة قريبا من التربة وحفيف الأشجار والظلال، عم أبحث هناك، عماذا يبحث وقوفي أو مشيي الحثيث وأنا أضرب الخطى منصتة لما يمنحني هذا الهنا ولما يجيش هناك في الداخل من قلق وتشوش وتقلب وحفيف وهمس ووجع يخطف الكلام ويلجم، إنه ذلك العبور الصامت المأهول، إنصات للعناصر تحاور بعضها البعض بالوشوشة ذاتها، هل هو الجسد الذي يشق طريقه في الرمل متهجيا آثاره متهجيا صموتاته متهجيا قلقا يبطش به أو محاولا فهم ما يحدث مستعينا بما يصله أو يعبر شاشته من هدير الموج وشساعة الأزرق ووشوشات الرمال اللامتناهية، هل هو خطو نسيان؟ هل هو خطو عبور وصيرورة، خطو انبجاس الأسئلة، واكتشاف نقاط الوجود قلب العبورات المرعبة والمذهلة التي تخترقه. 

ديوان رجاء الطالبي
لست بعيدة عن النصوص التي ترجمتها

هذا الذهاب هناك هو ما يستدعي الحاجة للعزلة بعيدا عن صخب المدينة وعلاقاتها  المزيفة، العزلة كفضاء للممكنات توقظ حس من يعشق الفضاء الحر لما تمنحه لك عزلتك من اختبار قدرتك على أن تقف وحيدا دون الحاجة لهم أولا، تغذي قوة استقلاليتك واكتفائك الذاتي وفي نفس الآن تبني موطنك وتربتك الشخصية توطد علاقتك بلغتك بأسئلتك وبطريقك الذي لا تكف تحرثه بخطاك القلقة المشوشة الراقصة على اليقين والمدمرة لكل السفن، وحده هذا الأمام وذلك الطريق هو ما يغذي فكرك ورؤاك وأسئلتك، ما يطرد عنك وهم الطمأنينة ويجعلك راعية لأسئلتك تربيها على العصف تربيها على عدم الاستكانة . 
وقالت صاحبة ترجمة "صباح الخير إيها الحزن" عن مدى الوعي بمفهوم الشعر لدى المبدع: يقول رونيه شار: "ليست أفعال الشاعر، سوى نتائج ألغاز الشعر"، هناك حالة إبداعية، وطبيعة شعرية تجعل من الانخراط في الفعل عبر توقعه وحدسه سلفا تعميقا لمعرفته عبر الكتابة الشعرية، ولا يمكن أن نخترق الماهية المفترضة للفعل ونفكك معناه إذا لم نخترق اللغة، الشعر مسكون بنداءات اللايقين والتشوش، مسكون بمساءلة الوجود والذات مصاحب لشروخات الذات وجروحها وقفزاتها وتحولاتها في الحياة والوجود، تحولات مضاءة بالشعر، بعتماته ومهاويه.
إن الحيز الذي يعمل فيه الشعر هو اللغة، فنحن نقارب جوهر الشعر انطلاقا من جوهر اللغة فالشعر كما يقول هايدغر يملك تسمية مؤسسة للوجود ولجوهر كل الأشياء وليس مجرد قول يقال كيفما اتفق، بل القول الذي ينكشف من خلاله كل شيء، أي كل ما نتلفظ به وما نصوغه في لغة التخاطب اليومي.
أنت لا تكتب قصيدتك انطلاقا من فراغ، لا بد من معرفة تعمق القول الشعري وتضيئه وإلا يكون مجرد تهويم وهذيان وثرثرة. كل معرفتك التي اكتسبتها وكل ذلك التفاعل والانصهار معها جعلها العين واليد والجسد الذي به تحيا ومن خلاله ترى وتفعل، لذلك كل أشكال الوجود التي تختبرها وتعيشها هي معجونة بمعرفتك وبأسئلتك وباختياراتك الصعبة صعوبة الأسئلة التي تحركها، كل فعل هو شغوف بالمعرفة التي تحركه، فأنت لا يمكن أن تحيا وترى وتلمس دون أن يتدخل فكرك ليفكر فيما تفعله. لذلك لا يمكن أن تتجرد القصيدة من وعي المبدع ومعرفته، لأنك تكتب انطلاقا من هذا الوعي، أحيانا تسبق القصيدة هذا الوعي وتتجاوزه لتؤسس لوعي جديد خاص بها.
وتضيف: المبدع نتاج لما يقرؤه، فكل الكتب التي قرأتها والتي جاورتك لسنوات في مسار حياتك لها تأثير على اختياراتك وعلى وجودك وعلى كتابتك وعلى الأسئلة التي تحرك وجودك أيضا، فالطفلة التي كانت تعيش عبر القصص التي  كانت مغرمة بقراءتها حد الانقطاع في ركن والغرق فيما تقرؤه، وتلك القارئة التي أدمنت القراءة لمجموعة من الكتاب ارتبطت بأسئلتهم وأفكارهم وجالت المكاتب بحثا عن مؤلفاتهم، تلك القارئة اليوم هي التي شكلت أفكارها وعوالمها وأسئلتها واختياراتها ومخيالها الذي اعتبرتهم قوتها وسندها في مجتمع لا يرحم الضعف البشري بل يسارع كي يدوس ويقضي عليه قراءاتي كانت قوتي التي شكلتها وبها وفيها عشت ونموت وخرجت إلى الوجود كي أخضع لاختباراته وامتحاناته. نكتب إذن في اشتغال وانصهار مع ما قرأناه وأثر فينا، ما كتبته وما سوف أكتبه هو رجع بعيد وإبداع يخضع لمحو تلك الآثار التي تغويه باتباعه لكن وعيه لا يكف عن محو ما يريد الاستبداد والتحكم فيه.
ما ترجمته كانت مرتبطا بقراءاتي وبكتاب وشعراء وجدتني أرتبط بمنتجهم الإبداعي والفكري، لست بعيدة عن النصوص التي ترجمتها، بل جزء في يجد نفسه فيها ويتمنى لو كان هو من أبدعها، ثم هناك هذه المتعة في منح صوتك للكاتب الذي تترجمه ليتكلم عبرك وعبر لسانك أن تكون آخر في ترجماتك، تنمحي ليكون العمل الذي تترجمه.