رجاء النقاش.. الحكمة المغلفة بحزن شفيف.. هل نسيناه؟

الفضل يرجع إلى النقاش في ترسيخ أسس مدرسة النقد التطبيقي التي توازن بين القاعدة النظرية الأكاديمية والقدرة على إضاءة جوانب العمل الأدبي من داخله.
أسلوبه اتسم بسهولة لافتة توسل بها ليعين قارئه على التفاعل معه والاستمتاع بما يجري على قلمه
فريدة النقاش: كان يمتلك أسلوبًا أخاذًا في الحديث وليس في الكتابة فقط

بقلم: مصطفى عبدالله

عشر سنوات مرت هذا العام على رحيل الناقد الكبير رجاء النقاش  (1934 – 2008).
وعلى الرغم من أن الفضل يرجع إليه في ترسيخ أسس مدرسة النقد التطبيقي التي توازن بين القاعدة النظرية الأكاديمية والقدرة على إضاءة جوانب العمل الأدبي من داخله، فإن الساحة الثقافية العربية لم تنتبه لهذه المناسبة، رغم أنه الذي ساند عشرات المبدعين العرب - وهم بعد في البدايات - فبشَّر بهم، ومنحهم صكوك الاعتراف مما ساعدهم على المضي نحو القمة: الطيب صالح، محمود درويش، أحمد عبدالمعطي حجازي، فدوى طوقان، وغيرهم كثيرون.
وقد اتسم أسلوبه بسهولة لافتة توسل بها ليعين قارئه على التفاعل معه والاستمتاع بما يجري على قلمه دونما تحذلق أو تعالم أو افتعال نثر المصطلحات الأيديولوجية أو النقدية الأحنبية أو الفلسفية بين السطور كي يبدو مثقفًا كبيرًا.
وقد قربني إليه بعد عودته إلى مصر، بعد تأسيسه مجلة فريدة هي مجلة "الدوحة"، التي كنا ننتظر عددها الجديد بشغف مع مطلع كل شهر.
بعد عودته لمصر كنا نلتقي كثيرًا، وكان حريصًا على متابعة ما أنشر وإبداء الرأي فيه. وفي أسفاري معه خارج مصر لمست ما يتمتع به رجاء من مكانة فريدة في نفوس المبدعين العرب ممن كانوا - حتى آخر لحظة في حياته - ينتظرون منه أن يمنحهم صكوك الاعتراف غير مدركين أن صحة الرجل لم تعد تساعده.
ولا تخفي شقيقته الناقدة فريدة النقاش، رئيس تحرير جريدة "الأهالي"، ومجلة "أدب ونقد" لسنوات، فضله عليها ودوره في اشتغالها بالكتابة بعد أن فتنها صوته وهي تستمع إليه لأول مرة عبر الأثير متحدثًا عن فرانسواز ساجان وروايتها الشهيرة "صباح الخبر أيها الحزن".

وتشير فريدة إلى أن رجاء كان يمتلك أسلوبًا أخاذًا في الحديث وليس في الكتابة فقط، ولو أن أحدًا التفت إلى تدوين ما يقوله حتى في السهرات العائلية لخرج بكنز من الأفكار والرؤى الثاقبة، والحكمة المغلفة بحزن شفيف.
أما الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي الذي علم مني، وهو في باريس، بخبر وفاة رجاء، فقد انهمر باكيًا وهو يقول:
"لا أذكر في هذه اللحظة كيف أصبحنا صديقين، نلتقي في النهار والليل، في القهوة وفي المنزل، ولم يكن هو أول من يقرأ قصائدي الجديدة فحسب، ولم يكن هو الذي يرسلها إلى مجلة "الآداب" البيروتية، التي كان يراسلها في ذلك الوقت، لتنشر فيها إلى جانب قصائد: صلاح عبدالصبور، والسياب، ونازك الملائكة، ونزار قباني.. وكفى، وإنما كان رجاء أقرب من أحدثهم عن نفسي، وكنت أقرب من يحدثهم هو عن نفسه، وهو لا يقرأ قصائدي ويسكت، وإنما يقرأها للآخرين ويحدثهم عنها وعني، ويناقش أفكاري وينبهني لما قد يجده فيها من سذاجة أو خطأ".
ويعترف الروائي ماهر أبو السعود، المقيم في استراليا، بأن ثناء رجاء النقاش على أولى رواياته "القاهرة.. باريس.. ملبورن" كان بمثابة جائزة التشجيع من هذا الناقد الكبير تدفعه إلى الاستمرار على طريق الرواية الصعب.
أما ناشره عادل المصري، الذي يرجع إليه الفضل في لًمْ شتات مقالاته لتصدر بين دفتي أحدث كتبه: "عباقرة ومجانين"، "شخصيات وتجارب"، "مطالعات وتأملات"، "تأملات في الإنسان"، و"لغز أم كلثوم"، فيقول:
"لم أجد أية معاناة في إقناع هذا الكاتب الكبير بأن أكون ناشره في آخر حياته، وهو الذي تتسابق معظم دور النشر لتظفر به بين مؤلفيها، فقد كان مريحًا إلى أبعد حد في تعاملاته، ملتزمًا بما يتفق عليه".