رحلة بحث شاقة عن ناجين تحت تلال من الأنقاض

عمال اغاثة يشبهون الدمار في مرفأ بيروت بعد 3 أيام من الانفجار بما حدث في هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة أو زلزالا حول قسما كبيرا من الميناء إلى اثر بعد عين.  
تضاؤل الآمال بالعثور على ناجين بعد 3 أيام من انفجار مرفأ بيروت
مرفأ بيروت أصبح أشبه بساحة خردة ضخمة وسط جبال من الركام
البحث يتركز على غرفة التحكم حيث كان عدة أشخاص يعملون لحظة الانفجار

بيروت - تكثّف فرق الإنقاذ المحلية والأجنبية الجمعة جهودها في مرفأ بيروت للعثور على المفقودين الذين تعيش عائلاتهم ساعات انتظار صعبة، غداة توقيف السلطات مسؤولين رفيعي المستوى في إدارة المرفأ والجمارك للتحقيق معهم.

وبينما بدأت المساعدات الدولية تجد طريقها إلى لبنان، تنظم فرنسا خلال الأيام المقبلة مؤتمرا دوليا لدعم للبنان، أعلن عنه رئيسها إيمانويل ماكرون خلال زيارته الاستثنائية الخميس إلى بيروت حيث دعا القادة السياسيين إلى ميثاق سياسي جديد وتغيير عميق في أدائهم.

ولم يستفق لبنان بعد من هول التفجير الضخم الذي ضرب الثلاثاء مرفأه، المرفق الحيوي الذي تعتمد عليه البلاد لاستيراد الجزء الأكبر من احتياجاتها الأساسية، في فاجعة أودت بحياة 154 شخصا، بعد انتشال أربعة جثث جديدة من تحت الأنقاض وتسبّبت بإصابة أكثر من خمسة آلاف آخرين.

في مرفأ بيروت الذي أصبح أشبه بساحة خردة ضخمة، انهمك عمال إنقاذ منذ ساعات الصباح الأولى بمواصلة البحث عن مفقودين بين جبال من الأنقاض وأكوام الحبوب التي انتشرت في كل مكان في محيط الإهراءات المتداعية جراء الانفجار.

فرق الانقاذ والاغاثة تواصل البحث عن عشرات المفقودين
فرق الانقاذ والاغاثة تواصل البحث عن عشرات المفقودين

وشوهدت في موقع البحث آليات ثقيلة وجرافات تعمل على رفع الركام وقطع القضبان الحديدية الضخمة ونقل حاويات الشحن، تمهيدا لفتح ممر بين الأنقاض لمحاولة الوصول إلى العالقين من موظفي المبنى.

وتبحث فرق إنقاذ فرنسية وإيطالية وألمانية وروسية في الموقع عن سبعة موظفين على الأقل كانوا يعملون في غرفة الإدارة والتحكّم في اهراءات القمح بينهم غسان حصروتي، الموظف في المرفأ منذ 38 عاما.

وكتبت شقيقته إميلي حصروتي على حسابها على تويتر "أنتظر خبر انتشالك حيا يا حبيبي، لم تخيّب أملي يوما وأنت أخي الأكبر والأجمل والأكرم. لم أترك بابا لم أطرقه لأعرف ما حلّ بك والآن وقد اقتربت اللحظة المنتظرة أجدني مرعوبة حتى الشلل"، مضيفة "عدْ يا نور عيني بخير، نحن بانتظارك".

وفي موقع الانفجار، يخرق صوت الجرافات الهدوء وسط الدمار الكبير هياكل سيارات وحاويات في كل ناحية وصوب وأكوام ركام وحديد وبضائع مبعثرة، بينها أكياس من البطاطس المقرمشة وجبال من حبوب الذرة.

وبعد ثلاثة أيام على وقوع الانفجار الذي بدّل في ثوان معدودة وجه مدينة بيروت، يسابق عمال الإنقاذ الوقت في محاولاتهم المستميتة للوصول إلى ناجين تحت أنقاض المرفأ الأكبر في لبنان.

ومن "نقطة الصفر"، حيث انطلقت شرارة فاجعة شبهها كثر بالقصف النووي على هيروشيما وناكازاكي في 1945، يبحث عمال إغاثة من لبنان وفرنسا وألمانيا وروسيا ودول أخرى عن مدخل لغرفة تحكم باتت مدفونة على عمق أمتار تحت الأنقاض.

ويقول المقدم أندريا من فريق الإغاثة الفرنسي (55 عاما) "علينا ألّا نوهم أنفسنا، الفرص ضئيلة جدا"، لكن في الوقت ذاته أظهرت تجارب عديدة أنه من الممكن انتشال ناجين "بعد ثلاثة أو أربعة أيام".

نقطة الصفر في مرفأ بيروت تعيد إلى الذاكرة انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك جراء اعتداءات 11 سبتمبر 2001

ويوضح أندريا أن الجهود في المرفأ تتركز حاليا على غرفة التحكم حيث يُعتقد أن عدة أشخاص كانوا يعملون لحظة وقوع الانفجار، مشيرا إلى أن انفجارات صغيرة سبقت الانفجار الكبير قد تكون دفعتهم إلى الفرار من الغرفة، مضيفا "تم انتشال أربع جثث من المنطقة وُجدت قرب سلم الخروج عند مدخل الإهراءات".

وتابع "نقطة الصفر في مرفأ بيروت تعيد إلى الذاكرة انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك جراء اعتداءات 11 سبتمبر 2001"، موضحا أن "حجم الدمار يُذكر عناصر فريقنا بزلزال هاييتي في 2010"، مضيفا "الفرق هنا، أن ما حصل ليس ناجما عن زلزال بل عن عمل بشري".

ويشرح قائد فريق الدفاع المدني الفرنسي الكولونيل تيسييه الذي سبق أن عمل في عدة مواقع كوارث في العالم، أن "الخصوصية هنا هي أن مركز الزلزال في الموقع تماما، على مسافة أمتار قليلة منا، في حين تكون مراكز الزلازل عادة على عمق مئات الأمتار تحت الأرض"، موضحا أنه عند حصول زلزال "عادة ما تنهار الأشياء في طبقات... أما هنا فكل شيء دُمّر". ويعني ذلك أن على الآلات الضخمة أن تحفر في جبال من الركام قبل الوصول لما هو مدفون تحتها.

وتسبّب الانفجار بتشريد نحو 300 ألف شخص من سكان العاصمة ممن تصدّعت منازلهم أو تضررت بشدة، وفق محافظ بيروت مروان عبود الذي قدّر كلفة الدمار بأكثر من ثلاثة مليارات دولار.

وقدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ما بين 80 و100 ألف طفل باتوا مشردين. موضحة "من المحتمل أن يكون من بين الضحايا أطفال وأولئك الذين نجوا يعانون من الصدمة النفسية".

لا أمل في العثور على ناجين
لا أمل في العثور على ناجين

ويخيم الحزن على شوارع بيروت المتضررة وسكانها والعابرين فيها. ولا يتمكن كثر من حبس دموعهم من شدّة التأثر والحزن أثناء تجولهم أو قيادة سياراتهم. وعلى شاشات التلفزة المحلية، تتحدث أمهات وزوجات وأصدقاء مفجوعون بخسارة أحبائهم.

وفي مستشفى ميداني روسي، كانت خيامه العشرون قيد الإنشاء الخميس في ملعب المدينة الرياضية في جنوب بيروت، بدأ توافد مصابين لتلقي العلاج حيث يستقبلهم مسعفون وطواقم طبية.

في إحدى الخيام، يتلقى طفل سوري لاجئ في الثالثة من عمره العلاج بعدما أصيب جراء سقوط الزجاج على رأسه. وفي خيمة أخرى، رجل مسن (93 عاما) يشكو من آلام في الصدر والظهر جراء قوة الانفجار.

وتجري الأجهزة القضائية اللبنانية تحقيقا في الانفجار الذي قالت السلطات إنه ناجم عن تخزين 2750 طنا من مادة نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 منذ ست سنوات.

وأفاد مصدر قضائي بأن عدد الموقوفين على ذمة التحقيق ارتفع إلى 21 شخصا بينهم مسؤولون رفيعون في مرفأ بيروت، بعد توقيف خمسة أشخاص الأربعاء بينهم موظفون في المرفأ والجمارك ومهندسون.

حجم الدمار في مرفأ بيروت يُذكر فرق الإنقاذ بزلزال هاييتي في 2010، لكن الفرق هنا أن ما حصل ليس ناجما عن زلزال بل عن عمل بشري

ومن بين الموقوفين وفق ما قال مصدر أمني رئيس مجلس إدارة المرفأ حسن قريطم.

وتجري التحقيقات حول العنبر رقم 12 حيث تم تخزين نيترات الأمونيوم إضافة "إلى مواد ملتهبة سريعة الاشتعال وكابلات للتفجير البطيء"، وفق بيات صادر عن مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية.

وبينما كانوا يتابعون بعجز انهيار الاقتصاد في بلدهم ويعيشون تبعات هذا الوضع الهش الذي أضيف إليه وباء كوفيد-19، أتى انفجار مرفأ بيروت ليشكل أكبر كوارث اللبنانيين.

وحمل اللبنانيون مسؤولية الانفجار للسلطة الحاكمة التي انتفضوا ضدها قبل أشهر مطالبين برحيلها. واندلعت ليلا مواجهات محدودة بين عشرات الشبان الغاضبين والقوى الأمنية في وسط بيروت.

وفيما تناثر 15 ألف طن من القمح والذرة والشعير من إهراءات مرفأ بيروت التي تكبدت أضرارا جسيمة مع الطاحونة القريبة منها وانهارت أجزاء كبيرة منها، يُخيّم صمت ثقيل على الموانئ التي كانت تكتظ في الماضي بالبواخر المحملة بالبضائع، لكنها باتت اليوم خالية وقد غرقت أو تضررت عدة سفن فيها.

ولا تزال الشحنات المرمية من كل جانب شاهدة على مرفأ كان يُعد سابقا وجهة الاستيراد الأولى للبنان، من كتب دراسة فرنسية وحقائب فخمة وسكر وزجاجات جعة.

وتبدو معالم الصدمة والحيرة على أوجه ثلاثة متطوعين من الصليب الأحمر اللبناني، يسيرون بين الركام قبل أن يتوقفوا عند البحر ليلقوا نظرة على ما حلّ بمدينتهم.

ويقول أحدهم، واضعا يديه على خصره "تبدو هادئة جدا، لكنه هدوء سيء. ثمّة شيء مات في المدينة ولا يبدو أنه سيستفيق مجددا".