رسم مسار سياسي بالقوة.. حلب وعُقدة المصالح
لا يمكن النظر إلى التطورات المفاجئة التي عصفت بالملف السوري بمعزل عن جملة التطورات الإقليمية التي أفرزت كمّا هائلا من التناقضات والتعقيدات الشرق أوسطية. التطورات الإقليمية وما أفرزته تمثلت بالدرجة الأولى في أن حرب لبنان أضعفت حزب الله، وضربت منظومة إيران الأمنية، وأحدثت تغيرات جوهرية أدت لفراغ قوة في سوريا، الأمر الذي كان سبباً في تحرك قوة ما بُغية سده، وهو ما استفادت منه تركيا وفصائلها. بالتوازي فإن الحدث في حلب حمل في طياته علامات استفهام كثيرة لناحية التوقيت، حتى أن مواقف القوى الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري لاسيما روسيا وإيران لم تكن على مستوى الحدث. وبصرف النظر عن التصريحات التي صدرت من حلفاء دمشق إلا أنها تصريحات لم تتماهَ مع المعايير الجديدة التي أطرت الملف السوري سياسياً وعسكرياً، وهذا ما يدعو للإستغراب بشأن مواقف الأطراف الرئيسية الفاعلة، والتي يحاول كل منها تحقيق مكاسب سياسية وأمنية خاصة به على حساب الآخرين.
التطورات الأخيرة التي شهدتها الجغرافية السورية في ما يتعلق بسيطرة فصائل النُصرة على حلب وريفها، والضغط العسكري الكبير الذي وجهته تلك الفصائل نحو مناطق سيطرة الدولة السورية في إدلب وريف حماة الشمالي، وما تبعه من تراجع جُزئي في جبهات القتال لصالح النُصرة وفصائلها، كانت سبباً في إختلاط المواقف وتضادها. فالتطورات الأخيرة أثارت قلق إيران في حين كان الموقف الروسي بارداً بينما أبدت تركيا ارتياحاً جراء التطورات، خاصة أن ما حدث يُعطي لتركيا هامشاً سياسياً يُمكن من خلاله إستثمار هذه التطورات وتوظيفها بما يخدم مصالح أنقرة في الجغرافية السورية.
كان واضحاً أن الحدث في حلب وخسارة بؤراً جغرافية ذات أهمية إستراتيجية، هو مثار خشية وقلق سياسي لطهران. فالأخيرة ترى في التراجع الكبير للأوضاع العسكرية والميدانية خسارة لمناطق نفوذ كان ترغب ببقائها ثابتة في سوريا، خاصة أن هناك مؤشرات تشي بانهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، الأمر الذي دفع بإيران للتعامل مع المستجدات في سوريا على أعلى المستويات، عبر البدء بتحركات دبلوماسية غايتها الحفاظ على مناطق إيران الإستراتيجية في سوريا من خلال إجبار أردوغان على وضع حدٍ للتطورات وإيقاف تقدم فصائله، بالإضافة إلى التأكيدات الإيرانية بأنها لن تتخلى عن دعم سوريا.
حركت طهران دبلوماسيتها بغية عدم خسارة ورقتها الذهبية في سوريا، وبذات التوقيت فإن إيران تراقب بدقة التطورات في سوريا، وهي تدرك بأن تفاعلات الميدان وما تُحدثه من تشبيك جغرافي للنُصرة والفصائل المدعومة تُركياً، لا تحتمل مساراً تفاوضياً جديداً، ولا يُمكن تأطير تلك التطورات أو الحد من تأثيراتها في ظل وقائع إقليمية ودولية ضاغطة على إيران. نتيجة لذلك فإن طهران ورغم خشيتها خسارة الأوراق الذهبية في سوريا، لكنها بذات التوقيت وبذات حالة التشبيك الإستراتيجي مع تركيا - أردوغان، فإنها تتفهم مواقف أردوغان ومخاوفه في سوريا.
الموقف الإيراني من باب البحث عن حلول وسط بين تركيا وسوريا، هو موقف نابع من إدراك طهران بأنه لا مناص من البحث عن مساحات سياسية جديدة يمكن البناء عليها لتبني مسار سياسي جديد ضمن أطراف أستانا، بغية إعادة السكون إلى الجغرافية السورية وتثبيت الأوضاع الحالية. ولأن القلق الإيراني ينبع من الوقائع الميدانية المتغيرة، فإن طهران تحاول جاهدةً البحث عن مخارج للملف السوري، والذي يبدو أنه بلا مخارج إلا عبر القرار الأممي 2254. ومن ناحية أُخرى فإن مسار أستانا ونُسخه المتكررة لم تحقق أي تقدم على مستوى الحلول السياسية، حتى بات هذا المسار مُعطِلاً للوصول إلى حل سياسي يُنهي الأزمة السورية، ومُعطَلاً جراء تغيرات جغرافية عميقة. وبين هذا وذاك فإنه ورغم أن مسار أستانا يجمع إيران وروسيا وتركيا، إلا أنه مسار غير مُنتج للحلول بقدر ما هو تثبيت لمصالح الثلاثي الضامن في سوريا، والتي إنقلب عليها أردوغان واستحوذ بقوة على أوراق ذهبية جديدة في الجغرافية السورية.
تركيا، وإن لم تُبدِ تبنيها المباشر ورعايتها للتطورات في حلب، إلا أنها في باتت في وضع يسمح لها برسم مسار سياسي جديد في سوريا وبالقوة، خاصة أن عودة فصائلها إلى حلب وسيطرتها على مناطق كانت مشمولة باتفاق أستانا، يُجيز الإستثمار في الوقائع الميدانية والمعطيات السياسية بما يخدم أهدافها الإستراتيجية في سوريا. فالمنظور التركي يعتقد بأن دمشق وموسكو وطهران لم يلتزموا كما يجب بمسار أستانا، ولم يعملوا على تبريد الهواجس التركية المتعلقة بتهديد الأمن القومي التركي من قبل الكُرد، واليوم مع ورقة حلب التي باتت بيد اردوغان، وما تُمثله هذه الورقة من عُقدة مصالح تجمع روسيا وإيران وسوريا، إلا أن مفتاح الحل والمخرج بات على طاولة أردوغان، وهذا ما ترجمه الأخير بقوله "يجب على الدولة السورية أن تنخرط في عملية سياسية حقيقية لمنع تفاقم الوضع".
الموقف الروسي وإن كان بارداً إلا أن موسكو حقيقة الأمر خسرت أهم مناطق نفوذها في سوريا بإنضمام حلب إلى معادلة أردوغان الجديدة، والتي بموجبها سيتم الضغط على شركائه في أستانا.
تسير الجهود الدبلوماسية بذات وتيرة المعارك العسكرية، الأمر الذي يُمكن من خلاله قراءة مؤشرات المرحلة القادمة ضمن معطيين. الأول، هو تسوية سياسية كُبرى تنطلق من الوضع العسكري والميداني القائم حالياً، وبرعاية تركية وروسية وإيرانية عبر العودة إلى الترتيبات السابقة لمسار أستانا، مع تعديلات جوهرية تُراعي المتغيرات الميدانية، وقد تأخذ فيها مدينة حلب وضعاً خاصاً. والثاني، عودة إلى مسار جنيف، وإطلاق مفاوضات مباشرة بين دمشق ومعارضيها والضغط باتجاه تنفيذ القرار 2254.
وما بين المعطيين السابقين، فإن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أعلن خلال لقائه نظيره الإيراني عباس عراقجي، استعداد بلاده للمساهمة في أي حوار بين المعارضة ودمشق إذا تطلب الأمر، كما شدد على حساسية بلاده تُجاه "الجماعات الإرهابية"، في إشارة إلى قوات سوريا الديمقراطية، وجناحها المسلح وحدات حماية الشعب، الذي تعتبره امتداداً لحزب العمال الكردستاني، فيما تصنف دمشق وإيران وروسيا، وكذلك الولايات المتحدة "هيئة تحرير الشام" جماعة إرهابية، وهذا ما يجعل من التطورات الأخيرة في الجغرافية السورية بوابةً لإفتتاح مسار سياسي جديد فُرض بالقوة على دمشق وموسكو وطهران.
إن إستمرار المعارك خلال الفترة القادمة سيبقى مستمراً وسائداً مع إمكانية العبث الجغرافي بأماكن تراها دمشق وموسكو وطهران خطوطاً حمراء لا يُسمح بتجاوزها. لكن في المقابل فإن ما يُنجز في الميدان يُترجم في السياسية، وبذلك قد تتوسع رقعة المعارك ضمن خارطة مناطق نفوذ دمشق وحلفائها، في انتظار نضوج الحل السياسي في سوريا، والذي ما زال معظمه بيد تركيا وروسيا وإيران، "الثلاثي الضامن" لمسار أستانا، لكن حُكماً فإن المُخرجات الجديدة للتطورات الحالية ستُراعي المتغيرات الميدانية التي فرضتها تركيا، والمفاجآت بمستوياتها كافة تبقى واردة.