رمزيّة الحجاب مفاهيم ودلالات: عن خطاب زين الدين

عدم انتظار نظيرة زين الدِّين استقلال المرأة الاقتصادي أي عملها المأجور والمربح خارج المنزل كي تطالب بإنصافها إذ اعتبرت أنّ ما تقوم به المرأة في المنزل كتدبير وعناية بالأسرة هو بحدّ ذاته عمل منتج ويستحقّ التثمين وهذا ما يتطابق مع وجهة نظر رجال الدين عن المرأة.

بقلم: عايدة الجوهري

في كتابي «رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، تعاملت مع الحجاب كعلامة تدلّ على شيء آخر يتخطّاها ويتوارى في ثنايا مرجعيّتها، متجاوزةً، بدلالاتها الإضافية، الإيمان والتقوى والواجب الديني، وتكمن دلالات هذه العلامة في ماهيّة النظرة إلى المرأة، ككائن إيروتيكي دوني، مثير للفتنة والشغب، ويتحتّم الحجر عليه، وتقيّيده، وإخفاء ملامحه الخاصة، قدر المستطاع، وتحديد كافّة أدواره، الخاصة والعامة، لمرّة واحدة وأخيرة.

لم أستند في تحليلاتي إلى الخطاب النسوي المعاصر عن الحجاب، بل إلى خطاب رائدة نسوية لبنانية برزت في عشرينات القرن الماضي، هي نظيرة زين الدين، وجدتُ في كتاباتها، والأصداء التي أحدثتها، حججًا وأدلّةً إضافية أعانتني على إثبات فرضيتي.

عن هذا الكتاب نشرت الناقدة الأدبية الأكاديمية رفيف رضى صيداوي مقالةً نقدية في صحيفة النهار اللبنانية، أظهرت فيها الأسس النقدية التي اعتمدتها، فضلاً عن الإشكاليات التي عالجتها.

فكتبت تقول: في كتابها «رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات» الصادر حديثًا عن «مركز دراسات الوحدة العربية»، خلّفت الدكتورة عايدة الجوهري لمساتها المميّزة في الفكر النسوي العربي، إذ تمحور كتابها حول واحدة من رائدات عصر النهضة العربية هي نظيرة زين الدين التي تجرّأت عام 1928، عندما كانت فقط في العشرين من عمرها، على مناهضة الحجاب، مودعةً أفكارها في كتابيها «السفور والحجاب» (1928) و«الفتاة والشيوخ» (1929). فحين استعادت الجوهري نظيرة زين الدين، لم تستعدها لكونها شخصية نسائية فحسب، بل لأنّها شخصية نسوية، و«لأنّها مهمّشة، وقلّما تُذكر، ولأنّنا نتساءل كيف واجهت امرأة ذاك العصر إشكاليات مازلنا نواجه بعضها»، ما دفع المؤلفة إلى دراسة حياتها وأعمالها، متعمّدةً خلال بحثها إبراز صوت هذه الشخصية النسائية وتأكيد اختلافها عن سواها من الداعين إلى تحرير المرأة.

لئن استخدمت المؤلفة في عملها تقنية تحليل المضمون لاكتناه خصائص الخطاب العائد لنظيرة زين الدين، فإنّ تتبُّعها للحجاب كعلامة دالّة تتوارى دلالاتها في ثنايا مرجعيتها، أي في مجموع المعارف والتصوّرات المتّصلة بها، أسهم في إثراء البحث وفي إضفاء المعاني على الخطاب المدروس.

تُشير المؤلفة في هذا الصدد قائلةً: «ما يهمّنا ليس الحجاب في ذاته، وإنّما في ما يُمثّله من قبل حاملاته كعلامة مميّزة، أو كـ"لوغاريثم" اصطلاحي حامل لتجربتهنّ، ومكثّف للمعاني التي ترتبط بهنّ، وبالصيرورات المعدّة لهنّ، أو التي أعددنَها لأنفسهنّ، لما يُمكن للحجاب أن يقدّم من دلالات أخرى موازية، تُعبّر عن غير ما هو ظاهر من دلالات».

وعليه، فكّكت الجوهري خطاب زين الدين في سياقه التاريخي الاجتماعي الثقافي والمعرفي، مُظهرةً أنّ مأزق الفكر النسوي العربي يكمن ولما يزل في جمود الفكر العربي المحافظ الذي يطوّع العقل للحفاظ على جمود النظام الديني الإجتماعي وثباته، وذلك في ظلّ عدم إستقلال سلطة العقل -كفعل متميز من أفعال الفكر- عن السلطة السياسية والأقتصادية والدينية المتحجّرة، إذ عمدت الجوهري، وفي سياق تفكيك خطاب زين الدين، إلى إستحضار أصوات المتنورين والمحافظين على حدّ سواء ومقارنتها بصوت زين الدين.

بهذا، بيّنت الجوهري نقض زين الدين للمسلّمات الخاطئة القائلة بدونية المرأة الأصلية الحتمية، والتي يُمكن اختصارها بمقولة أنّ «المرأة ناقصة عقل ودين». كما بيّنت اتّجاه زين الدين إلى نقض التشريعات الناظمة لحياة الأسرة لكن في تميّزها، بالإبقاء على المعاني المباشرة للآليات القرآنية والأحاديث الخاصة بالمرأة – أي في عدم تأويلها تأويلاً إيجابيًّا – والذهاب إلى تحليل السياقات التي نزلت فيها الآيات، والتي تُدين الرجل أكثر ممّا تكرّمه وتؤكّد فوقيته. فناهضت زين الدين بالتالي مبدأ تعدُّد الزوجات وعدم إنصاف المرأة في الميراث، والطلاق التعسُّفي الذي يُبيحه الرجل لنفسه بحجة الشرع... وغيرها من الممارسات التي تُبيحها قوانين الأحوال الشخصية تحت غطاء ديني.

كما بيّنت الجوهري أيضًا تعرُّض زين الدين لمفهوم «القوامة» معرِّفةً القوامة الحقّة، وضابطةً معانيها ومحدّدةً أصولها من منظار ديني ومدني وإنساني، يكشف عن خلفيتها النسوية. ذلك على الرغم من بعض الآراء التي انتقدت مفهوم زين الدين للقوامة انطلاقًا من قولها بأنّ من واجبات المرأة أن تُطيع زوجها، مع أنّه لا يحقّ له أن يحرمَها حريتها واستقلالها، بحيث تُشير نازك سابايارد في دراستها لنظيرة زين الدين إلى أنّ الأخيرة تُبيّن إيمانها بأنّ الرجال قوّامون على النساء. صحيح تتابع يارد «أنّها تُحدّد ذلك بأن يكون هؤلاء الرجال صالحين، خيّرين، إلاّ أنّها تغضّ النظر عن هذا الشرط حين تقول أنّ الرجل قوامٌ على زوجته لأنّه يُنفق عليها».

وعلى غرار قاسم أمين نفت زين الدين تلازُم العفّة بالإلزام والقهر والتحجُّب، داعيةً إلى استبدال الإلزام والقهر بالمعرفة والفضيلة. هذا فضلاً عن نفيها مبدأ الوساطة بين المسلم وربّه، ودعوتها للعودة إلى النصوص الدينية نفسها التي يستند إليها «الحجابيون» كما تُسمّيهم، وتبيانها كيف أدّى استئثار الفقهاء بحقّ الاجتهاد إلى تفاسير خاطئة تتناقض مع المنطق العلمي، مطالبةً تاليًا بحقّ كلّ مسلم ومسلمة بالاجتهاد وفق هذه النصوص نفسها. على أن يعتمد كلّ مجتهد على موحيات العقل، ويأخذ بمبدأ التيسير لا التعسير، وبالتحوّلات الاجتماعية الزمنية، وإلاّ يخرج عن روح الشرع، أي عمّا شرّعه القرآن الكريم والنبي.

أما تميّز زين الدين عن دعاة تحرير المرأة، ولاسيما قاسم أمين، فقد تبدّى في أمور عدّة منها:

  • عدم انتظارها استقلال المرأة الاقتصادي، أي عملها المأجور والمربح خارج المنزل كي تطالب بإنصافها. إذ اعتبرت زين الدين أنّ ما تقوم به المرأة في المنزل، كتدبير وعناية بالأسرة، هو بحدّ ذاته عمل منتج ويستحقّ التثمين.
  • عدم اكتفائها بالدفاع عن حق المرأة الطبيعي والإنساني والإلهي بالسفور، بل بجعله مسيئًا للرجل وقيمه وللمرأة في آن واحد: «فإذا كان الرجل مصدر خوف وخشية، فهذا دليل على أنّه غير مهذّب وغير راقٍ، فيتحوّل الحجاب حينئذٍ إلى حجّة ضدّه، فهو يعني هروب المرأة من الرجل ومجابهتها إياه بسدل النقاب على وجهها وتحويلها ظهرها إليه. وهذا يعني، وهو قوام، أنّه خائن، سارق أعراض لا يجوز أن يؤمن شره، بل يجدر بالمرأة أن تهرب منه هربًا».
  • تميُّزها من خلال تأكيدها على ملكات المرأة الذهنية – مقارنةً بمن سبقها من النهضويين – بعدم استخدامها النبرة الفوقية الاستعلائية التي استخدموها هؤلاء والتي تُضمر التشكيك بملكات المرأة الفطرية واستعداداتها.
  • تميُّزها عن دعاة تعليم الإناث في الدعوة إلى اعتماد معايير أخلاقية واحدة في توجيه الأبناء من الجنسين، وذلك من دون تفضيل الذكور على الإناث. إذ توجّهت بنصائح تربوية إلى الآباء، منتقدةً الفصل بين الجنسين، داعيةً الأهل إلى تعويد البنات على الاختلاط منذ الصغر، قائلةً: «عوّد ابنتك يا سيدي الرجل منذ الصغر، وعيناك وعينا أمّها ترعيانها أن ترى الرجال. ولا بدّ لها في حياتها أن تراهم ويروها مثلما ترى الشمس والهواء».
  • رفْضها مبدأ حصر العيب أو الفضيلة بسلوك النساء وتحميلهنّ وحدَهنّ مسؤولية المحافظة عليها وتبعاتها، وانتقادها بالتالي الممارسات التربوية القائمة على التمييز بين تربية البنات والصبيان في ما يتعلّق بمفاهيم العيب.
  • عدم اكتفائها بالدعوة إلى تعليم الفتاة بل مطالبتها بتثقيفها، لأنّ إدخال الفتاة إلى المدرسة لتلقّي القراءة والكتابة، لا يعني بناء التكامل العقلي والأدبي عند المرأة، جاعلةً من الحرية هدفًا أولاً لتحرُّك المرأة الثقافي. وفي هذا تقول: «لأنّ الإنسان لا يبني في المدرسة من عمله وتكمّله العقلي والأدبي، إلاّ أساسه، وإنّ صرحه الظاهر النافع لا تبنيه إلاّ الحرية في مدرسة العالم، وإلاّ كان علمًا ناقصًا ضارًّا».
  •  تتميّز زين الدين بكونها أول امرأة مسلمة دعت إلى حقّ المرأة في الاجتهاد، كمدخل لتسويغ حقوق المرأة وتقديسها.
  • استنكارها سكوت أنصار السفوزر وخشيتهم، فيما أنصار الحجاب لا يألون جهدًا للدفاع عنه وعن إدانة السفور ومحاكمة السفوريين.
  •  تحميلها الرجل تبعات عزلة المرأة وهامشيتها، فيما حمّل رجالات النهضة، وفي طليعتهم قاسم أمين وأحمد لطفي السيد، المرأة مسؤولية تخلُّف المجتمع المصري.

إلاّ أن تميُّز زين الدين عن غيرها من النهضويّين، وكذلك نسويتها المبكرة لم يحجبا عن المؤلفة بعض التناقض الذي وقعت فيه هذه الرائدة النهضوية. ومن بين هذا التناقض الذي ذكرته المؤلّفة مقارنة زين الدين بين الحيوان والإنسان لتبيان الفوارق الجوهرية الفطرية بين الجنسين، وهو الأمر الذي يُخالف النظرية التي انطلقت منها حول تأثير التربية في الطبائع. وكذلك وقوعها في التناقض بسبب تسليمها بضرورة الفصل بين عالم الروحانيات وعالم العلم، لكن مع استخدامها ما ينتمي إليهما معًا. الأمر الذي حدا بالدكتورة الجوهري إلى وسم منهج نظيرة زين الدين بالتوفيقي، لكونه يقوم على الملاءمة بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والتراث والواقع، والأصالة والحداثة، والغرب والشرق، والدين والعلم. ولعلّ ذلك ما جعل الدكتورة نازك سابا يارد تقول: «نستشفّ نزعة علمانية تتسرّب إلى فكر الكاتبة، عن وعي منها أو غير ما وعي. فهي مؤمنة بإسلامها إيمانًا عميقًا (...) لأنّ إيمانها يغلب تفكيرها العلمي الحرّ نجدها تُناقض نفسها حين تنتقد نظرية داروين في النشوء والارتقاء، آخذةً بقصة الخليقة كما روتها الكتب الدينية». ولعلّ تنبُّه المؤلّفة إلى بعض التناقضات التي وقعت فيها الشخصية المدروسة يشكّل دلالةً على متانة منهجها المعتمد في دراسة نصّ تراثي، وعدم إسقاطها المفاهيم والرؤى الحديثة الراهنة على نصّ قديم. بل الاتجاه، كما سبقت الإشارة، إلى تفكيك خطاب زين الدين في سياقه التاريخي الاجتماعي الثقافي والمعرفي، وتتبُّع العناصر المكوّنة لنسوية الخطاب من خلال رمزية الحجاب في فكر هذه النهضوية الرائدة. إذ ناقشت زين الدين الحجاب بصفته سلوكًا يقضي بالتحكُّم بكينونة النساء، كجزء من منظومة فكرية وسياسية، ومن حالة فكرية دينية وسياسية مجتمعية عامة، تُسهمان في الاستبداد بهذه الكينونة. ولعلّ من علامات هذه النسوية:

  • تفكيك زين الدين النص التراثي ونصوص التقليديين بأدوات غير ذكورية ركّزت الجوهري على الكشف عنها.
  • خضوعها لآلية الإقصاء لأنّها قالت كلامًا واضحًا وطالبت بتعديل نظام معرفي كامل.
  • مخاطبتها العقل مخاطبةً تمسّ، على حدّ تعبير المؤلفة، رأسمال الجماعة اللغوي، وهو رأسمال ذكوري.

من هنا تجلّت نسوية الشخصية النهضوية التي درستها الجوهري، لكونها اقتحمت المجال الذكوري الذي يخشى أي تعديل في علاقات القوة المستندة إلى نصوص مقدّسة. وفي هذا تورد الجوهري الآتي: «تنبش المرأة الذاكرة المذكرة الفقهيّة التي تؤوّل النصّ وفق مقاييسها، وتؤنّث الذاكرة المكتوبة المذكرة، وتقارنها بأخرى أسّسها ذكور، أي أنّها تقارن بين نصوص الذكر، فتكشف الفرق بين الإنساني المحمّل بشهوات السيطرة والإلهي. لقد أنّثت الإلهي».

وبذلك خرجت زين الدين عن حالة الانتظام والتشابه، وبهذا الخروج هدّدت سلطة الرجل ومنظومة القيم الذكورية. فتجلّت نسويتها التي نجحت الجوهري في إبراز معالمها ومضامينها.