روايات علاء الديب.. شخصيات رمادية تعاني الاغتراب

شريف حتيتة الصافي يُرجع عدم الاهتمام النقدي بتجربة علاء الديب، لأنها أكثر خصوصية وأكثر تحديدا من غيرها، وليس لنقص في قيمتها الفنية.
الكاتب في كل رواياته يقدم الشخصيات في صورة مقارنة بين عهدين للشخصية
الروائي الراحل كان بارعا في المزج بين البعد السياسي والبعد الإنساني الصافي
عبر الروائي عن رؤيته للمجتمع وتحولاته من خلال شخصيات إشكالية

القاهرة ـ من أحمد رجب

ينتمي الروائي المصري الراحل علاء الديب (1939-2016) لما يعرف بجيل الستينيات، وهو صاحب تجربة ثرية تميزه عن أقرانه، فقد كان الأبرع في المزج بين البعد السياسي والبعد الإنساني الصافي، مما يثير تعاطف القارىء مع شخصياته، كما يكسب رواياته قدرا من الشاعرية النابعة من مواقف إنسانية مقنعة ومفعمة بالمشاعر العميقة والمنضبطة معا، فينجح كذلك في تحقيق التوازن بين الفعل والحركة والتأملات. وهو في أعماله يمزج بين الاغتراب والهزيمة، فتكتسي شخصياته بغلالات رمادية تصبغ رؤاها وتشيع الضباب في أفقها المنظور.
ورغم تراكم إبداعاته على مدى أربعة عقود، إلا أنه واجه تهميشا وتجاهلا رصد الدكتور شريف حتيتة الصافي بعض مظاهرهما، ومن بينها أن ملتقي القاهرة للإبداع الروائي العربي في دورته الثانية المنعقدة في 2003، وكان عنوانها "الرواية والمدينة" ألقي فيه ستون بحثا نشروا في مجلدين كبيرين لم يحظ منهما علاء الديب إلا بعشرة أسطر، ضمن أحد البحوث، فضلا عن مجلد ثالث لشهادات الروائيين، وقد جاء خلوا من شهادة للروائي الذي اتخذت رواياته السبعة من المدينة فضاء حكائيا، فهي رواية مدينة خالصة لكن لم ينتبه الملتقى لذلك، فعلاء الديب كان واحدا من تلك الطائفة التي لا تلهث وراء الشهرة ولا تستجدي الأضواء، رغم ثراء تجربته الإبداعية التي خصها الدكتور الصافي بكتابه "بنية السرد الروائي عند علاء الديب" (صادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة بالقاهرة).

في ثلاثيته التي جاءت في صورة مذكرات صريحة للشخصيات، لم يكن الاسترجاع مجرد تقنية بل سمة للسرد

وترجع أهمية دراسة البنية لقناعة الباحث بأنها تتيح لنا الوقوف على مفاصل العمل الأدبي، والعناصر المكونة له، وكيف استخدم الكاتب أدواته في رسمها، فهذا النوع من الدراسات يراه الباحث هو الأقدر على إظهار الإمكانات الفنية للكاتب – أي كاتب - نظرا لأن التقنيات الفنية تتنوع بتنوع العناصر البنائية المكونة للنص.
النكسة والهجرة
يشير الكتاب إلى أن روايات علاء الديب تدور حول تجربتين كليتين، الأولي عن نكسة يونيو/حزيران 1967 وتبعاتها، والثانية عن آثار الهجرة إلى بلاد النفط على الأسرة المصرية. والروايات كلها تميل إلى القصر، وقد برر كاتبها ذلك في تقديمه لأعماله الكاملة بقوله "كتبت الرواية القصيرة لأنني أتمنى أن يسمع القارىء كلامي كله مرة واحدة، لم أتردد أمام ما اقتضاه هذا من تكثيف للغة، فمازلت أحلم أن يلاقيني الشعر في آخر العمر".
ويرى الباحث أن هذا القصر لا يفضي بأعمال الديب لشكل النوفيلا بل تظل روايات وإن قصر حجمها، فمضامينها ارتبطت بالإنسان المهمش المغمور على مستويي الذات والجماعة، وهي مضامين ملتصقة بالرواية القصيرة وإن لم تقتصر عليها، كذلك فطبيعة الشكل نفسه وما يتميز به من تكثيف للدلالة وجنوح للإيجاز.
يرى الناقد أن روايتي "القاهرة" و"الحصان الأجوف" وإن مثلا مرحلة البداية لكاتبهما إلا أنهما يشكلان النص الأصلي أو النص النواة، الذي نماه الكاتب في بقية أعماله باعتبارها نصا واحدا، وهما يمثلان بداية التحول المجتمعي في مبادئه وقيمه بعد نكسة 1967، وهو الرصد الذي اتضح ونضج في "زهر الليمون" مما فرض تشابها تقنيا بين الروايات الثلاثة. وإن كان الحدث في زهر الليمون أكثر تشعبا وتشابكا، ومعه اتسعت الرؤية، التي امتدت في "أيام وردية". 

تراكم إبداعاته على مدى أربعة عقود
واجه تهميشا وتجاهلا 

موازاة ومقارنة
عبر الروائي عن رؤيته للمجتمع وتحولاته من خلال شخصيات إشكالية حيث تمثل الشخصية الروائية عنده النمط الإشكالي الذي تحدث عنه لوكاتش وجولدمان. فجاءت بنية الشخصية عنده موازية لبنية المجتمع، فكل نمط من شخصياته هيمن على النص بقدر هيمنته في بنية المجتمع، مع تأكيد الباحث على أن الهيمنة لا تعني الأهمية، فقد تنبع الأهمية من الشخصيات المهمشة. 
ويلاحظ أن علاء الديب في كل رواياته يقدم الشخصيات في صورة مقارنة بين عهدين للشخصية، فالأول منها يمثل إيجابية الشخصية وفاعليتها في نسيج المجتمع، وإيمانها بالقيم، والثاني يمثل الوجه المضاد للمرحلة الأولى، فترصد الرواية التحول وتقدم مسوغاته من خلال وعي الشخصية. 
وقد قدمت رواية القاهرة، التي مثلت استشرافا لنكسة 1967، صورا مختلفة لتغير المجتمع وتحول قيمه، بالشكل الذي جعل فتحي يقتل زوجته عقيلة الحامل حتى لا تنجب له طفلا، فهو لا يريد أن يكون له امتداد في المجتمع، ثم تجيىء "الحصان الأجوف" في عام 1968، فتحقق ما أنذرت به "القاهرة"، ففهمي أيضا لا يريد أن يكون له امتداد في المجتمع، ويحاول الهروب، يقول "سوف أغزل حول نفسي شرنقة، خيوط رفيعة سوف أغطي بها وجهي وعيني، خيط من الكذب وخيط من الحقيقة".
ويصف نفسه بأنه "حصان أجوف يدق في شوارع القاهرة، وقع خطواتي يرن في داخلي"، ليعبر عن اغترابه وانفصاله عن الواقع وهو ما تأكد في زهر الليمون، وأيام وردية حيث جسدت شخصياتهما كافة ملامح الاغتراب بمعناه المتمثل في "الشعور بالتجرد وعدم الاندماج النفسي والفكري في المجتمع". 
وفي رواية "أطفال بلا دموع" يقدم نموذجا أنتجته سياسة الانفتاح، فالدكتور منير فكار وهو أستاذ جامعي، سافر معارا إلى الخليج ويتحول إلى مجرد شره جامع للمال، وحينما يعود  لم يجد نفسه سوى "قطة ضالة تجري ليلا في شوارع القاهرة ساحبة في فمها كيسا كبيرا به نقود". ويلاحظ أن منير فكار في تلك الرواية امتداد لشخصية مصطفي الكردي في "زهر الليمون". 
وقد استلزمت تلك المقارنات بين عهدين لكل شخصية أن يميل الكاتب في كل رواياته لاستخدام لتقنية الاسترجاع، وهي التقنية التي تمكن الروائي من العودة لمستوى سابق من مستويات السرد كان قد تجاوزه، وذلك مرتبط بكون كل شخصياته تحيا في الماضي، بل توقفت عنده فكلها شخصيات بدون مستقبل، وفي ثلاثيته التي جاءت في صورة مذكرات صريحة للشخصيات، لم يكن الاسترجاع مجرد تقنية بل سمة للسرد.
ويرجع الباحث عدم الاهتمام النقدي بتجربة علاء الديب، لأنها أكثر خصوصية وأكثر تحديدا من غيرها، وليس لنقص في قيمتها الفنية. وهو وإن لم يقدم سوى سبع روايات قصار قد يراها البعض قليلة بمعيار العدد إلا أنها في حقيقتها شديدة الثراء بمعيار الفن. (وكالة الصحافة العربية)