روتنبرغ .. عين شعرية تنم عن نقد مفارق للنظام الأميركي

روتنبرغ يسمو فوق الفهم القديم والتقليدي للنحو، ويتحدى التركيب وبنية الجملة اللذين تعود عليهما القارئ العربي.
"حبس إلى أجل غير مسمى"، ديوان جديد لمايكل روتنبرغ يصدر بالعربية 
أسهم روتنبرغ في صياغة مشهد الشعر الأميركي باعتباره محرّراً ومُدافعاً عن التجديد في هذا الشعر

مايكل روتنبرغ من الشعراء الأميركيين الأكثر تجديداً ومُفارقةً في آن واحد، كما قال الناقد والشاعر عبداللطيف الوراري في تقديمه للديوان الذي بين أيدينا. 
مايكل روتنبرغ Michael Rothenberg  شاعر وكاتب أغانٍ أميركي، ورئيس تحرير مجلة "بيغ بريدج" وناشرها على الإنترنت، والشريك المؤسس لحركة الشعر العالمي المعروفة بـ (100 ألف شاعر من أجل التغيير). 
نشرت قصائده على نطاق واسع في مجلات أدبية عديدة من بينها: إكسكويزيت كوربس، مجلة كولدن هاندكفس، جاكيت، مجلة براغ الأدبية، تراي سايكلو وزيزيفا. 
له دواوين شعرية عديدة من بينها (الرجل/ المرأة) الذي ألفه بتعاون مع جوان كايغر (منشورات فش درم)، (رؤية متأنية) (لا ألاميدا/ منشورات جامعة نيو مكسيكو)، (اِخْتر) (منشورات بيغ بردج)، (شبابي بصفته قطارا) (منشورات فوت هيلز)، (حبس لأجل غير مسمى: قصة كلب) (مطبعة إكستسس، 2013) والذي صدر في طبعة عربية عن دار أروقة للدراسات والنشر. 
ويتضمن عمل مايكل كمحرر قام بجمع ومراجعة قصائد مختارة للشاعر الأميركي ألن فيليب، جوان كايغر، إد دورن (كتب بنغوين)، وقصائد مختارة من أعمال ألن فيليب (مطبعة جامعة ويسليان).
كتب الناقد الأميركي دايل سميث عن تجربة مايكل روتنبرغ الشعرية قائلاً: لقد ساهم مايكل روتنبرغ في صياغة مشهد الشعر الأميركي باعتباره محرّراً ومُدافعاً عن التجديد في الشعر الأميركي. وقد تمكن القارئ الأميركي المعاصر من خلال علاقات روتنبرغ الوطيدة مع دار نشر (بنغوين) من الاطلاع على مجلدات مختارة من الشعر الأميركي الحديث نشرت خلال العقد الماضي، لكتاب أميركيين لعبوا دوراً حاسماً في صوغ مفهوم جديد للشعرية الأميركية خلال منتصف القرن الماضي، ومن بين هؤلاء الشعراء نجد: فيليب ويلن، جوان كايغر، ميلتزر ديفيد، مايكل مكلور، وإدوارد دورن. هذا بالإضافة الى جهود روتنبرغ مع مطبعة جامعة ويسليان التي أسفرت عن نشر أعمال شعرية رائعة وممتعة لألن فيليب، مُحقّقاً بذلك رقماً قياسيّاً في الإبداع الشعري والأداء البصري والالتزام الثقافي، وكل ذلك في مجلد ضخم وممتع يجمع قصائد شاعر عظيم.

لنشكر روتنبرغ على جميله لأنه منحنا الفرصة كي نرى العالم من خلال عيني الشاعر مثل كلب فيرلينغيتي الذي أشار إليه في بداية ديوانه

يقول الناقد عبداللطيف الوراري:" لقد هالني شعر هذا الرجل، الذي يحتشد بعشرات الكلمات والملفوظات من كلّ فنّ وعلم، من الذرة إلى البكتيريا والطفيليات، مروراً بأسماء الدول والعواصم والمدن، والغابات، والنباتات، ومشاهير الأعلام، والفنون، والحيوانات، والنسب والرموز الرياضية، ومنتوجات الصناعة الجديدة التي تغرق المجتمع الاستهلاكي في أتونها، من خلال عين شعريّة لاقطة وساخرة ترصد في حركاتها المهمل في حياتنا اليومية وتفاصيلها المكتظّة والباردة في آن، والعابرة للآفاق والمحيطات:
"في حركة،/ دائماً في حركة/ المطر وإبر الصنوبر المنكسرة/ من ورائي/ عنكبوت على صخرة بجانب النافذة/ الصقر يعبر قمم الأشجار/ ثُمّ يذهب/ أتبع هذا/ أتبع ذاك/ زجاجة خضراء دبقة/ من خليج المكسيك/ تسافر عبر الولايات المتحدة/ في صندوق/ في شاحنة متحركة/ في طريقها إلى ساحل المحيط الهادئ/ أراضٍ على الرفّ/ بجانب الصور العائلية/ نسر ذهبي اللون/ يطفو على حجر كريستالي/ أخشاب طافية، مبخرة...).   
وتجد كلّ هذه الدوالّ يُداخل بعضها بعضاً بكيفيّة تضع المعنى خارج كلّ حساب مُتوقّع في العملية الشعرية، وهو ما يجعل النصوص، داخل المجموعة، تنطوي على مفارقات بناء الدلالة، في علاقتها بأزمة تشيُّؤ الموضوعة، وانشطار الذات وتصدُّع فهمها للغيرية التي تعكسها بنى الملفوظ كيفما اتفق.   فإذا كان الديوان يطفح بمتواليات فانتازية وسوريالية لا يمكن أن نخطئها، فإنّ ذلك لا يفقدنا الشعور بأنّ شعر روتنبرغ هذا يستمدّ قوّته وروحه من معاناة الإنسان وآلامه، ليس من أجل أن ينصب نفسه سرادق عزاء لمعزّين مفترضين ومُملّين، بل من أجل إيقاظ الوعي الأممي الذي طالما وقع تحت خدر الأيديولوجيّات المتطرفة، للتغيير والثورة. فالدّيوان، إذاً، يمكن أن يُقرأ كقصيدة أو معلّقة طويلة تنبثق من تيار الوعي الكامن لدى الشاعر بضرورة التغيير، والأمل في التغيير، آجلاً أم عاجلاً. لكن من المهمّ أن نلفت إلى أنّ روتنبرغ يصوغ جملته الشعرية الخاصة به: جملة بصريّة باروديّة ومحدودبة، من نتاج خبرته الشخصية، ووعيه الحدّي بالعالم المحسوس، وثقافته الفلسفية النافذة، ومقروئيته النابهة لأعمال والت ويتمان، وجيمس جويس، وألن غينسبرغ وغيره من شعراء جيل الإيقاع  الاستثنائي. 
وداخل هذا كلّه، تتنوّع صيغ الجملة وطرق كتابتها التي تسترفدها من أساليب المونتاج والمونولوغ والتبئير والتفضئة، ومن ملفوظات الكتابة الاعترافية، وهو يصل القصائد بتقنيّات الكتابة عند شعراء ما بعد الحداثة."
وأنا أترجم ديوان مايكل روتنبرغ المعنون بــ "حبس إلى أجل غير مسمى: قصة كلب"، لفت انتباهي مجموعة من القصائد التي تنم عن وعي ثقافيً كونيًّ يعكس تأثّر شاعرنا بحركات التغيير الاجتماعي والسياسي بشمال أفريقيا وبلدان الشرق الأوسط على أشكال الكتابة الشعرية وروح الشعرية الأميركية المعاصرة، وهو اهتمام يعكس كذلك معاناة روح قلقة تُجاه الظرف الإنساني ليس فحسب في أميركا باعتبارها الدولة الأشدّ تمثيلاً لروح الرأسمالية المتوحشة، بل في البلدان العربية التي كبحت الأنظمة السياسية العقيمة عجلةَ تقدُّمها. 
هذا من الناحية الموضوعاتية، وقد تولى الوراري التحدث عن المواضيع والقضايا التي يثيرها شعر مايكل روتنبرغ وتأثيره على الشعر العربي المعاصر.
ارتأيت أن أتحدث بإيجاز عن الحيثيات التي رافقت هذه الترجمة من الإنجليزية إلى العربية. أوّلاً، لم تكن تجربة ترجمة ديوان مايكل روتنبرغ سهلة لاعتبارات عدة منها ما يتعلق بما هو لغوي تركيبي، ومنها ما يعلق بما هو ثقافي بالدرجة الأولى. فمن الناحية اللغوية التركيبية، شكّل أسلوب روتنبرغ تحدّيا كبيرا بالنسبة لي نظرا لكونه يكتب بطريقة مخالفة لما ألفناه في الشعر العربي الحديث. فروتنبرغ يسمو فوق الفهم القديم والتقليدي للنحو، ويتحدى التركيب وبنية الجملة اللذين تعود عليهما القارئ العربي، لأنه اختار أن يتخلى عن استعمال جمل فعلية وركز بالأساس على جمل اسمية تبتدئ بالمصدر في كثير من الأحيان.  

Poetry
سبر أغوار هذا الديوان

سيلاحظ القارئ أن فهم روتنبرغ للقصيدة  يتلخّص في كونه لا يعتمد على الجملة الفعلية التي تحدّد تناسقاً سرديّاً داخل النص الشعري، بل يستعمل جملا اسمية متجاورة تنقل تجربة وأحاسيس الشاعر على شكل انطباعات تميل إلى السريالية في كثير من الأحيان. يسمي مايكل روتنبرغ هذه التقنية بالسرد عن طريق المجاورة وهي تقنية يستعملها بعض شعراء جيل الإيقاع، خاصة أولئك الذين تأثروا بكتابات شعرية شرقية من قبيل "الهايكو" لدى اليابانيين وأخص بالذكر هنا زعيم "جيل البيت" جاك كيرواك صاحب "كتاب الهايكو".    
إنّ تركيز روتنبرغ على الجملة الإسمية من ورائه وعي عميق ببلاغة وتأثير الصورة على المتلقي. فإذا كانت اللغة العربية تبتدئ وتركز بالأساس على الجملة الفعلية، فقصائد روثنبرغ تشكل تحدّياً للتركيب في اللغة العربية، وبالتالي تعكس طريقة جديدة في التجريب على مكونات القصيدة المعاصرة. وقد نتج عن التسلسل المتجاور للجمل الاسمية في قصائد روتنبرغ إحساسٌ بأن ديوانه يمكن اعتباره في كليته مجرد قصيدة طويلة وحيدة تتكون من انطباعات سوريالية عن مواضيع وقضايا يومية مرتبطة بالحرب والعنف والاستغلال البشع للإنسان من طرف الأنظمة السياسية. 
وهكذا يقوم شعر روتنبرغ بدور جهاز التقاط حدسي لشظايا التجربة اليومية عبر انطباعات تبدو في ظاهرها اعتباطية إلا أنها في الحقيقة تعكس ذكاء روتنبرغ الذي يختصر الطريق إلى السرد عبر الصورة. 
إن شعر مايكل روتنبرغ يرتكز بالأساس على الجملة الاسمية باعتبارها (متوالية خطّية/ graphic sequence) لا تتوقف عن القفز باستمرار في مجال رؤية الشاعر واستفزازه. بهذا المعنى يمكن أن ننسب إلى شعر روتنبرغ  بعض السمات الرئيسة لحركة السوريالية، خاصة أنّه سبق وأن وصف شعره في حوار له قائلاً: "ربما كلنا سورياليّون، ولكننا لم نُنْهِ القصيدة بعد".
أما بالنسبة للتحدي الثاني الذي واجهتُه وأنا أترجم ديوان مايكل روثنبرغ، "حبس إلى أجل غير مسمى: قصة كلب"، فيتعلق بما هو معجمي وثقافي. سيلاحظ القارئ أن ديوان مايكل روتنبرغ حافل بألفاظ  وكلمات وعبارات استعارها من لغات ومجالات وميادين شتى تتوزع بين الفيزياء والكيمياء والأدب العالمي والرياضيات وعلم الاقتصاد والفلك والبيولوجيا والطبخ العالمي والعلوم السياسية والطب وغيرها. هذه الألفاظ والكلمات التي وظفها روتنبرغ في ديوانه تصعب ترجمتها ونقلها إلى اللغة العربية بسهولة لأنها ترتبط بسياق محدد ولا بد من الإشارة إلى استعمالاتها الخاصة ودلالتها التي أضفاها عليها الشاعر للتعبير عن استنكاره للوضع القائم في بلاده أميركا وتأثيره على سيرورة الأحداث في دول أخرى. 
ومن هذه الكلمات والألفاظ سأذكر على سبيل المثال لا الحصر لفظة "ترالفمدور" التي تفترض أن يكون القارئ لديوان روتنبرغ قد اطلع على كتابات روائيي ما بعد الحداثة، خاصة كورث فينيغوت في روايته "المجزرة الخامسة"، والذين ينتقدون بشدة مفهوم الكتابة الخطية والزمن داخل الرواية. إن لفظة "ترالفمدور" في ديوان روثنبرغ "حبس إلى أجل غير مسمى: قصة كلب" تختزل في الحقيقية دلالات اختار الشاعر أن يحيا بها بطريقة مباشرة ويصعب على القارئ العادي أن يحيط بها؛ فـ "ترالفمدوري" (كائن خيالي من كوكب ترالفمدور) يجسد في الحقيقة أخلاق عصر ما بعد الحداثة حيث تغيب قيم الإنسانية والاحترام المتبادل والعدالة والمساواة وتسود الفوضى والتشتت والحتمية المطلقة التي لا تخضع لمفهوم الزمن المحدد. 
وبهذا يكون مايكل روثنبرغ قد مرر من خلال اختياره لمعجم محدد واعتماده لمفاهيم معينة رسالة ينتقد فيها مظاهر التفسخ واندثار مفهوم الإنسانية في ظل الزحف المتزايد للرأسمالية المتوحشة والحروب التي تنتج عنها.

الديوان يخاطب كل شخص يضيع في جمال العالم العابر ناسياً أو متناسياً أن الظلم مازال يسود في كل لحظة

وفي سياق آخر، نجد روتنبرغ يستعمل ألفاظا استمدها من الطبخ العالمي مثل "غوندورزولا" و"رافيولي" من الطبخ الايطالي، و"سالمونيلا" و"الغرغرينا" من الطب؛ هذا بالإضافة إلى أسماء لمستحضرات لا يفقهها إلا المتخصص في المجال.
 ساعدتني رحلتي التي قمت بها إلى الولايات المتحدة الأميركية صيف 2013 على سبر أغوار هذا الديوان، فقد التقيت الشاعر مايكل روتنبرغ وقضيت معه أكثر من أسبوع بمدينة سانتا روزا بولاية كاليفورنيا، وعكفنا معا على إعادة قراءة ومناقشة ديوانه قبل الشروع في ترجمته. وقبل أن أغادر مدينة سان فرانسيسكو باتجاه لوس أنجلس ارتأى روتنبرغ أن نتوج ديوانه بقراءة شعرية لمختارات من ديوانه باللغتين الانجليزية والعربية، إبان أمسية شعرية بمقهى كاتز بسباستبول. اتضح لي أن فعل الترجمة فعل يقوم على التعاون بين المؤلف والمترجم حتى يتم تفادي أي خلل أو نقص يمكن أن يطال الدقة في ترجمة الألفاظ ونقل الأفكار. ومن ناحية أخرى، كان للأنترنت الفضل الكبير في تقريب المسافات بيني وبين روتنبرغ حيث كنا نقضي ساعات طوالاً نناقش ونتبادل الأفكار ونوضح معا بعض الخطوات والاختيارات التي تتعلق بترجمتي لديوانه.
وفي الأخير آمل أن يكون هذا الديوان إضافة نوعية إلى الأدب المكتوب باللغة العربية فهو يخاطب كل شخص يضيع في جمال العالم العابر ناسياً أو متناسياً أن الظلم مازال يسود في كل لحظة. وتبقى مزايا الديوان جمة، فقد جمع روتنبرغ جميع أجزاء وشظايا الحياة ليقود خطانا ويوجهها عبر ظلمات الحقبة الحالية من الحبس إلى أجل غير مسمى. لنشكر روتنبرغ على جميله لأنه منحنا الفرصة كي نرى العالم من خلال عيني الشاعر مثل كلب فيرلينغيتي الذي أشار إليه في بداية ديوانه: 
"الكلب يجري بِحُريّة في الشارع ويرى الواقع والأشياء التي يراها أكبر من نفسه... " لورنس فرلينغيتي.