روز اليوسف: تفرد نسوي مبكر

فاطمة اليوسف كانت رمزا للتحدي والتمرد والكفاح واسما من الأسماء الثقافية المركونة في طي النسيان.
مغايرة للأدائية المفروضة على نساء زمنها، فكانت صوتا يخلق الموجة وليس مجرد صدى لأصوات رجال عصرها
نساء يتحدين الظروف المحيطة ويتحكمن بمصائرهن بدرجة عالية

أحيانا تقودنا الصدفة المحضة فقط للتعرف بعمق على بعض الأسماء التي نظن إننا نعرفها بشكل جيد، ولكننا نتفاجأ بأنها معرفة هشة لا تزيد عن معرفة الاسم والمهنة وبعض الأمور العرضية. 
وكانت روز اليوسف (فاطمة اليوسف) رمزا للتحدي والتمرد والكفاح واسما من الأسماء الثقافية المركونة في طي النسيان والمعروفة بشكل عام من دون إلمام دقيق بتفاصيل حياتها. ولكن أشكر الظروف والمصادفات التي جعلتني أتعرف عليها بشكل أعمق من السابق وأضمها إلى قائمة النساء المؤثرات بي في الوطن العربي.
قصة كفاح ونضال روز اليوسف تثبت أن هناك نساء يتحدين الظروف المحيطة ويتحكمن بمصائرهن بدرجة عالية. هذا يجعلنا نستدعي جهود المفكرة الأميركية جوديث باتلر التي شكلت الموجة النسائية الثالثة، وقدمت مفهوما جديدا يضاف لرصيد مصطلحات النقد النسائي هو مصطلح  "الأدائية". يعني مصطلح "الأدائية" أداء المرأة لأدوار معينة لسلوكيات تعيشها المرأة بحياتها اليومية وفق الطريقة التقليدية المتوارثة عند الأمهات والجدات ‏تشكل وعي المرأة لوجودها وحياتها وتعتقد أنها جزء أصيل من هويتها بينما هي تطبعت عليها وليست جزءا من طبيعتها. انقلبت باتلر على فكرة  أداء المرأة أدوارها في الحياة كامرأة ضعيفة تستقي دورها المتوارث منذ سنين كما تقول جوديث باتلر مؤلفة "Gender Trouble". هي تقول باختصار إن المرأة صنعت أدوارها كمؤدية لما يريده الرجل والمجتمع منها، ومن ثم فككت باتلر هذا عبر معطيات لغوية واجتماعية. ‏وهذه الممارسات قديمة وله جذور تاريخية مما قاد المرأة لأن تتوارثه عبر العصور. كانت الخلاصة التي وصلت لها باتلر تكمن في أن ضعف المرأة وتخلفها كل هذه القرون الماضية لم يكن أمرا طبيعيا بل مصنوعا.
تكمن أهمية روز اليوسف أنها اسم ثقافي بارز له تاريخه الخاص الذي سجلته صاحبته بجرأتها وشجاعتها ومبادئها غير القابلة للمساومة والمغايرة للأدائية المفروضة على نساء زمنها، فكانت صوتا يخلق الموجة وليس مجرد صدى لأصوات رجال عصرها.
فمن هي روز اليوسف؟ 

Famous People
فاطمة اليوسف

هي فاطمة اليوسف لبنانية الأصل مصرية النشأة والتكوين الثقافي، عاشت حياة قاسية من يتم إلى تشرد، وعدم الإحساس بالأمان والاستقرار، فقدت أمها صغيرة، فتربت عند جيران أهلها بطرابلس وهم من اختاروا لها اسم روز لأنهم مسيحيون، بعدما تركها أبوها التاجر هي ومربيتها، مع تكفل بكافة مصاريفها. بعد انقطاع أخبار الأب، ساءت معاملة الأسرة لها، فتحولت من ابنة الجيران إلى شيء يعطى ويمنح، فأعطيت لصديق لهم كان مسافرا للبرازيل، ولكنها وهي في طريقها للبرازيل عندما وصلت الباخرة للإسكندرية، قررت الفرار من الرجل، وضاعت في الإسكندرية وخيرا فعلت الأقدار بها. قادتها الظروف لأن تكون مسرحية، ومن ثم صاحبة دار روز اليوسف ذات الدور السياسي والثقافي البارز في حقبتها الزمنية لدرجة إنه يقال: إنها امرأة أسقطت حكومات ومارست دورا رقابيا مهما. وهي أم الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، بعد طلاقها من محمد عبدالقدوس تزوجت زكي طليمات.
إضافة إلى تعاطفي الشديد مع قصتها الشخصية وما لاقت من مشاكل وقلقلة ونفي عاطفي ونفسي، فهناك ملمح آخر في شخصيتها يهمني، ويلهمني أيضا، وهو التمرد والرفض المستمر للفساد، كما إن شخصيتها الفريدة مكنتها من رسم بصمة مغايرة في الحياة الثقافية في مصر. فمن علامات تمردها على الواقع، عدم الاستسلام لما يرسمه الآخرون لها وحرصها على رسم طريقها بنفسها، من مثل قرارها وهي لا تزال في عمر الثانية عشرة في ألا تسافر للبرازيل مع صديق الأسرة التي تبنتها، والهروب منه في ميناء الإسكندرية. هذا الموقف يعكس قوة شخصيتها منذ الصغر وعدم الاستسلام للواقع بسهولة.  رفضها الاستسلام لديكتاتورية الرجل متمثلا بيوسف وهبي في تعامله معها كذات توضع وترفع حسب رغبته هو، فخرجت من الوسط المسرحي غير آسفة، أو مترددة في خطوتها، مما قادها للخطوة الأهم في حياتها وهي إنشاء مجلة روز اليوسف.
 عندما وجدت الصحافة الصفراء تتمادى في ممارسة سلطة الشائعات على حياة الفنانين، قررت إنشاء مجلة روز اليوسف، لتكون وسيلة للرد المحايد والموضوعي على هذه الأقلام الرخيصة وغيرها. فكانت المجلة مجال حراك فكري رفضه الكثيرون وطالبوها بالعودة إلى المسرح. ولكن سرعان ما حظيت المجلة بسمعة رفيعة في الأوساط الثقافية.  وعندما رأت أن المجلة لا تعود عليها بما يغطي تكاليف إصدارها قررت أن تتوسع في مجالاتها ففتحت المجال للكتابة السياسية، وكان هذا دور أمير الصحافة العربية آنذاك محمد التابعي الذي برز معها ولمع نجمه، كما لمع نجم العديدين كصلاح جاهين وأنيس منصور وغيرهم.
في الجانب السياسي كشفت روز عن شخصية المرأة القوية الثورية المتمردة لا تقبل الاستسلام بسهولة، فكانت معارضة لجميع الحكومات المتعاقبة، حتى في فترة حكم جمال عبدالناصر، هي وابنها إحسان عبدالقدوس شكلا نوعا من المعارضة القوية لسياسته، ويقال إن لها دورا مهما في تشكل وعيا مغايرا مهد لثورة ٢٣ يوليو/تموز، فما تنشره في مجلتها كان ملهما للمصريين في نشأة مواقف التحرك والرفض. 
أما فيما يخص فرادة شخصيتها وقدرتها على التغيير، فلفتني ما قاله البعض في البرامج الوثائقية عنها من أنها استطاعت أن تغير من طريقة الأداء المسرحي، في جانب الخطابة والبلاغة والصوت المرتفع، فاستطاعت بهدوئها أن تخلق نمطا مسرحيا تعبيريا. 
الملمح الآخر هو إنشاؤها للمجلة التي تدافع عن قضايا مهمة وتطرح بصمة خاصة وتعارض بحيادية يقل نظيرها في هذا الزمن، واختيارها لاسم المجلة "روز اليوسف"، وهي كانت المجلة الوحيدة في العالم العربي التي تحمل اسم امرأة، ليبقى العنوان أيقونة دالة على سيدة عظيمة رسخت اسمها بأحرف مضيئة من كفاح وعطاء وإصرار وتحدي. 
فيما لا يمل الكثير من التنظير لقضايا إنسانية مهمة ويخفق في الممارسة، تقف روز اليوسف مثلا على التطبيق الحقيقي لدور المثقف الحقيقي رغم عدم دخولها المدارس ودور المعرفة. السؤال هنا، هل كانت هذه الفتاة ترى المستقبل عندما أفلتت من يدي معيلها، أم أن الصدفة وحدها من قادتها إلى طريقها الذي حمل سمات المغايرة والاختلاف. وهل لو  كتب لها القدر الانتقال إلى البرازيل مع الرجل، ستكون لدينا روز اليوسف بالنسخة الغربية العالمية وتكون صوتًا يصل إلى  أرجاء كل العالم؟ ولكن سواء أكانت روز اليوسف نسخة غربية أم شرقية فقد قامت المرأة بدورها النضالي في كلتي الحالتين بأفضل مما يجب، وقدمت هوية إنسانية فريدة ليبقى اسم روز اليوسف اسما من الأسماء الفريدة والنادرة خرج من عباءة الألم بقدسية. وإذا كانت جميع ظروف حياتها تقودها لأن تكون هامشا، وصوتا ثانويا، وأثبتت أنه باستطاعة التابع أن يتحدث ويسمع ويؤثر في الفضاء المحيط به.