ريموند كارفر كاتب الواقعية القذرة

القاص والشاعر الأميركي يذهب في قصصه إلى تتبع الحيوات المهمشة التي تحيط بعالم المرء وتنعكس على وجوده الروحي والجسدي.
المختارات تكشف الكثير من تجليات عالم هذا الحكاء في بحثه عن العلاقات الخافية بين المرء وحيوات محيطه
إسبر يرى أن كارفر يعد من أعظم كتاب القصة القصيرة في الأدب الأميركي الحديث

يذهب القاص والشاعر الأميركي ريموند كارفر في قصصه إلى تتبع الحيوات المهمشة التي تحيط بعالم المرء وتنعكس على وجوده الروحي والجسدي، الأمر الذي يجعل للتفاصيل المسكوت عنها دورها اللافت في تشكيل الرؤى الجمالية والفنية وأثرها الذي ربما يكون مستترا لكنه مؤثر وفاعل على عوالم أصحابها، وهذه المختارات التي ترجمها له أسامة إسبر وعنونها بـ "أساليب شائعة" تكشف الكثير من تجليات عالم هذا الحكاء في بحثه عن العلاقات الخافية بين المرء وحيوات محيطه الصغير أو الكبير. 
يرى إسبر في مقدمته للمختارات أن كارفر يعد من أعظم كتاب القصة القصيرة في الأدب الأميركي الحديث، ودعي "تشيخوف أميركا"، وهو كاتب بنى عالمه القصصي في أجواء تميزت بالفقر والتفكك وغياب اليقين في الحياة، بل إن شخصياته تعيش حياة متقلقلة تتسم بعدم الاستقرار، وهي دوماً في وسط أزمة أو في حالة فشل أو إدمان.
ويتابع لم يكتف كارفر بكتابة القصة القصيرة، بل كتب الشعر وصنع صوتاً شعرياً متميزاً وضعه في الصفوف الأولى للشعر الأميركي المعاصر، لكن شهرته كقاص غلبت شهرته كشاعر، وتميز عالمه القصصي بالبناء الفني المحكم واللغة المقتصدة في التعبير والدقيقة التي تخلو من الزوائد والهذر اللغوي الذي لا وظيفة له في السرد القصصي، واشتغل على القصة المحبوكة، على الحكاية، وعلى من يروي الحكاية كي يكشف عن خفايا مقلقة، ومهددة، ما يعكس براعة كارفر في الإيحاءات المزروعة في قلب سرده القصصي.
ولد كارفر في بلدة كلاتسكاني في ولاية أوريغون وترعرع في ياكيما بواشنطن. عكس في قصصه حياة الطبقة العاملة، وتعج قصصه بشخصيات من الطبقة الوسطى الأدنى. ولقد وصف الناقد توماس ر.إدواردز عالم كارفر القصصي بأنه مكان يخاف فيه الناس حتى من احتمال ألا يدور محرك سيارتهم ومن تهديد خطر البطالة والإفلاس، ولا يشعرون بالسعادة إلا حين يدخنون أو يشربون.
ويلفت إسبر إلى أن شخصيات كارفر: نادلات وميكانيكيون وسعاة بريد ومدرسون في المدرسة الثانوية وعمال مصانع وبائعون جوالون، من الصعب عليهم تأمين الدخل، ونسيج حياتهم كئيب بسبب الفقر. وتجمع قصصه بين تعقيدات الفعل والباعث وهي فنية في إيحائها بالعنف المكبوت وسوداوية وتشاؤمية. 
يعبر كارفر عن انهيار العلاقات الإنسانية، وتحدث بعض قصصه في اللحظات التي تتداعى فيها الأمور، أو بعد حصول الأذى، فيما لا تزال موجات الصدمة تردد، ودوماً الكحول والعنف لهما علاقة بما يحدث. توفى كارفر من سرطان الرئة عام 1988 وترك خلفه عدداً من المجموعات القصصية التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية وعدداً من الدواوين الشعرية التي رسخت اسمه كأحد أهم الشعراء في جيله.
ويشير إسبر إلى أن المختارات تضم جميع قصص مجموعة كارفر "عمّ نتحدث .. نحن نتحدث عن الحب؟" باستثناء قصة واحدة أعاد الكاتب نشرها في مجموعة "كاتدرائية" المترجمة إلى العربية، كما يضم قصصاً أخرى اختيرت من أعماله القصصية الكاملة التي صدرت في طبعة جديدة باللغة الإنجليزية ويلقي الضوء على العالم القصصي لكارفر الذي يعد من مؤسسي ما اصطلح النقاد على تسميته بـ "الواقعية القذرة"، وهي مدرسة في الكتابة اشتهرت في الثمانينيات بفضل مجموعة من الكتاب الذين بدأوا بالكتابة عن شخصيات تنتمي إلى الطبقة الوسطى وعن خيبات أملها وتحطم قلوبها والحقائق القاسية لحياتها العادية. 
كانت مجلة "جرانتا" أول من أطلق اسم "الواقعية القذرة" في 1983 حين نشرت في عددها الثامن قصصاً لكتاب هذه المدرسة، ومن بين الكتاب الذين نشر لهم أنجيلا كارتر وبوبي آن ماسون ورتشارد فورد وتوبياس وولف وريموند كارفر. وتميز كتاب الواقعية القذرة، وعلى رأسهم ريموند كارفر، بنثر مقتصد ولغة بسيطة ووصف مباشر للناس والأحداث العادية والهدف هو إحداث تأثير في أكبر عدد ممكن من الناس.
ويوضح إسبر أن كارفر حاول في قصصه القصيرة بناء علاقة ثقة بين الراوي والقارئ ما جعل كلمات السارد موثوقة وصادقة، والهدف من وصف الناس العادين في الواقعية القذرة الكارفرية هو اختراق حياتهم العادية نحو طبقات أعمق لوجودهم الواقعي وبالتالي نبش المخبوء فيهم وجعلهم شخصيات أكثر إثارة، وبالتالي أكثر كشفاً لواقعهم الذي يعيشونه في أميركا التي في الرؤية الكارفرية "يعيش الناس فيها بلا يقين على الصعيد الاقتصادي، فيما العلاقات الأسرية مفككة، والصداقات مبنية على المصالح، والعلاقات المادية هي الأساس، وإدمان الكحول والعنف يتجليان وسط كل هذا.
من المختارات
قصة "شيء آخر إضافي"
طلبت ماكسين زوجة إل دي منه أن يخرج في الليلة التي جاءت فيها إلى المنزل من العمل ووجدت إل دي ثملا مرة ثانية ويزعج براي، ابنتها التي في الخامسة عشرة. كان إل دي وراي جالسين إلى طاولة المطبخ يتجادلان، ولم تمتلك ماكسين الوقت كي تضع محفظتها أو تنزع معطفها.
قالت راي: "أخبريه يا أمي.. أخبريه ما الذي تحدثنا عنه".
أدار إل. دي الكأس في يده لكنه لم يشرب منه. نظرت إليه ماكسين نظرة شرسة مزعجة.
"لا تحشري أنفك في الأمور التي لا تعرفين أي شيء عنها". قال إل دي، وأضاف: "لا أستطيع أن أنظر بجدية إلى شخص يجلس طول النهار وهو يقرأ مجلات التنجيم".
قالت راي: "لا علاقة لهذا بالتنجيم.. توقف عن إهانتي".
بالنسبة لراي، لم تذهب إلى المدرسة لعدة أسابيع. قالت إنه لا أحد يستطيع إجبارها على الذهاب. قالت ماكسين إنها كانت مأساة أخرى في خط طويل من المآسي.
قالت ماكسين: "لماذا لا تخرسا أنتما الاثنان. يا إلهي، أنا أعاني من الصداع".
قالت راي: "أخبريه يا أمي. أخبريه أن الأمر كله في رأسه. إن أي شخص يعرف أي شيء عن الأمر سيقول لك إنه هنا يقع!"
قال إل. دي: "ماذا عن مرض السكّري؟ ماذا عن الصرع؟ هل يستطيع الدماغ السيطرة على هذا؟"
رفع كأسه تماما تحت عيني ماكسين وأنهاه.
قالت راي: "السكري أيضاً. الصرع. أي شيء! إن الدماغ هو أقوى عضو في الجسم، لمعلوماتك".

مختارات
شخصياته تعيش حياة متقلقلة تتسم بعدم الاستقرار

التقطت علبة سجائره وأشعلت واحدة لها.
قال إل. دي: "السرطان؟ ماذا عن السرطان؟"
أعتقد أنه يمكن أن ينتصر عليها بهذا. نظر إلى ماكسين.
قال إل. دي: "لا أعرف كيف بدأنا هذا".
"السرطان"، قالت راي، ساخرة من بساطته.
"السرطان أيضاً. السرطان يبدأ في الدماغ".
"هذا جنون!" قال إل. دي. ضرب الطاولة براحة يده. قفزت المنفضة. سقط كأسه على جانبه وتدحرج". أنت مجنونة يا راي! أتعرفن هذا؟".
"اخرس"، قالت ماكسين.
فكت أزرار معطفها ووضعت محفظتها على الكاونتر. نظرت إلى إل دي وقالت: "إل. دي لقد اكتفيت منك واكتفت منك راي وجميع من يعرفونك. كنت أفكر أن الأمر انتهى. أريدك أن تخرج من هنا. الليلة. في هذه اللحظة. الآن. اخرج من هنا فوراً"!
لم يكن إل. دي ينوي الذهاب إلى أي مكان. نقل نظره من ماكسين إلى إناء المخلل الذي كان على الطاولة. التقطه وقذفه من نافذة المطبخ.
قفزت راي مبتعدة عن الكرسي. "يا إلهي! إنه مجنون"!
ذهبت كي تقف إلى جانب أمها. سحبت أنفاساً صغيرة عبر فمها.
قالت ماكسين: "اتصلي بالشرطة. إنه عنيف. اخرجي من المطبخ قبل أن يؤذيك. اتصلي بالشرطة".
بدأتا بالخروج من المطبخ.
قال إل. دي: "أنا ذاهب. حسناً. أنا ذاهب الآن". هذا يناسبني بشكل كامل. أنتما مجنونتان بأية حال. هذا مشفى مجانين. هناك حياة أخرى في الخارج. صدقاني، هذا ليس نزهة، هذا مشفى مجانين".
استطاع أن يشعر بالهواء المتسرب من ثقب في النافذة على وجهه.
قال: "إلى هناك أنا ذاهب. إلى الخارج هناك"، وأشار.
قالت ماكسين: "هذا جيد".
قال إل. دي: "حسناً، أنا ذاهب".
خبط يده على الطاولة. رفس كرسيه إلى الخلف. ونهض.
قال إل. دي: "لن تريانني أبداً بعد الآن".
قالت ماكسين: "لقد منحتني الكثير كي أذكرك".
قال إل. دي:"حسناً".
قالت ماكسين:«اخرج الآن. أنا أدفع الأجرة هنا، وآمرك أن تخرج الآن".
قال: "أنا ذاهب. لا تدفعيني. أنا ذاهب".
قالت ماكسين: "اذهب فحسب".
قال إل. دي: "أنا راحل من مشفى المجانين هذا".
شق طريقه إلى غرفة النوم وأخذ إحدى حقائبها من الخزانة. كانت حقيبة بيضاء قديمة من نوع نوجاهيد بمشبك مكسور. اعتادت أن تحزم فيها مجموعة من الكنزات وتحملها معها إلى الكلية. ذهب هو إلى الكلية أيضاً. رمى الحقيبة على السرير وبدأ بوضع ثيابه الداخلية، وبنطلوناته وقمصانه وستراته وحزامه الجلدي القديم بمشبكه النحاسي، شراباته، وكل ما كان لديه. وعن المنضدة أخذ مجلات للقراءة. أخذ المنفضة. وضع كل ما يستطيع وضعه في الحقيبة، كل ما تستطيع استيعابه. ربط الجانب الجيد، أمن الحزام، ثم تذكر أشياءه الخاصة بالحمام. عثر على حقيبة الحلاقة على رف الخزانة وراء قبعاتها. وضع فيها آلة الحلاقة والمعجون والبودرة، ومزيل تعرقه اللاصق وفرشاة أسنانه. أخذ معجون الأسنان، أيضاً. ثم أخذ خيوط تنظيف الأسنان.
استطاع سماعهما في غرفة الجلوس تتحدثان بصوتين منخفضين. غسل وجهه. وضع الصابون والمنشفة في حقيبة الحلاقة. ثم وضع صحن الصابونة والكأس والمغسلة ومقص الأظافر ومجعد الرموش. لم يستطع إغلاق حقيبة الحلاقة، ولكن لم تكن هناك مشكلة في هذا. ارتدى معطفه وحمل الحقيبة. دخل إلى غرفة الجلوس. حين شاهدته، وضعت ماكسين ذراعها حول كتف راي.
قال إل. دي: "هذا هو الأمر. هذا وداع. لا أعرف ماذا أقول أيضاً عدا أنني لن أراكما ثانية أبداً. أنت أيضاً". قال إل. دي لراي، "أنت وأفكارك المجنونة".
قالت ماكسين: "اذهب". أمسكت بيد راي، "ألم تلحق ما يكفي من الأذى بهذا المنزل مسبقاً؟ تابعت، يا إل. دي. اخرج من هنا واتركنا بسلام".
قالت راي: "تذكّر فحسب. إنه في رأسك".
قال إل. دي: "أنا ذاهب. هذا كل ما أستطيع قوله. إلى أي مكان بعيداً عن مشفى المجانين هذا. هذا هو الشيء الرئيسي".
ألقى نظرة أخيرة في غرفة الجلوس ثم نقل الحقيبة من يد إلى أخرى ووضع حقيبة الحلاقة تحت ذراعه. سأبقى على اتصال معك يا راي ويا ماكسين. من الأفضل أن تغادرا أنتما أيضاً مشفى المجانين هذا".
قالت ماكسين: "لقد جعلته مشفى مجانين. إذا كان مشفى مجانين فهذا ما صنعته أنت".
وضع الحقيبة على الأرض وحقيبة الحلاقة فوقها. قرب نفسه وواجههما. تراجعتا إلى الخلف. قالت راي: "حاذري يا أمي".
قالت ماكسين: "أنا لست خائفة منه".
وضع إل. دي حقيبة الحلاقة تحت ذراعه والتقط الحقيبة.
قال: "أريد فقط أن أقول شيئاً واحداً إضافياً".
ولكن عندئذ لم يستطع أن يفكر ما الذي يمكن أن يكون هذا الشيء.