زخم الأمسيات الرمضانية يتجدد في العراق

تقاليد قديمة تقوم على رواية حكايات تاريخية وممارسة ألعاب شعبية مثل 'الظرف والصينية' تنتعش في رمضان وتوطد التلاحم الاجتماعي بين العراقيين.
شخصية الحكواتي تشتهر بنقل السير التاريخية
'المحيبس' هي من أكثر الألعاب شعبية خلال شهر رمضان
التقنيات الحديثة تهدد الحكواتي
الظرف والصينية.. 'لعبة القوميات'

بغداد – "كان يا ما كان في قديم الزمان"… هكذا يبدأ الحكواتي عبدالواحد إسماعيل قصته في كل ليلة رمضانية في أحد مقاهي الموصل حيث يشهد هذا التقليد الذي راج في الستينات زخما متجددا إلى جانب أنشطة ترفيهية أخرى تحيي ليالي رمضان، موطّدة التلاحم الاجتماعي في العراق.
بعد المعارك الدامية التي شهدها العراق على مدى نحو أربع سنوات كان تنظيم الدولة الإسلامية يسيطر فيها على ما يقارب ثلث مساحة البلاد، عاد شهر رمضان ليصبح مساحة لقاءات تعيد البهجة لسكان البلاد.
وبين أزقة الموصل القديمة التي لم تنفض عنها غبار الحرب بعد، يجوب إسماعيل (70 عاما)، وهو فنان مسرحي معروف بين أبناء المدينة، مناطق عدة ليقص بأسلوبه الخاص حكايات تاريخية وشعبية في الشهر الفضيل، تلقى آذانا تتوق للعودة إلى أيام الزمن الجميل.
ويقول الحكواتي أو الـ"قصخون" كما يسميه أهل الموصل مرتديا دشداشة طويلة مع كوفية صفراء على الكتفين وطربوش أحمر على الرأس "عشت عصوراً عدة، فأحاول نقل صورة جميلة خاصة للشباب".


محاولات لتوظيف ثقافة الماضي في معالجة مشاكل اجتماعية أفرزتها الظروف
 

يجلس إسماعيل على أريكة عالية في ساحة خصصت لهذا الغرض، وفي يده المايكروفون، ويبدأ بقص رواياته بأسلوب تمثيلي جميل، ولكن بأنفاس متقطعة لكبر سنه.
ولطالما اشتهرت شخصية الحكواتي في القدم، بنقل الأخبار والسير التاريخية التي شكلت وعيا وثقافة لدى المجتمعات في تلك المرحلة الزمنية.
لكن إسماعيل يسعى اليوم إلى ربط الماضي بالحاضر. فيقص مثلا سيرة عنترة وعبلة الشهيرة في الموروث العربي، ويحاول ربطها مع ما يلهي الشباب اليوم من ألعاب إلكترونية، كالـ"بابجي".
حوله، يتحلق رجال وشبان وأطفال، يرتدي بعضهم أزياء شعبية تراثية، يخترق تسمرهم في بعض الأحيان أصوات باعة القهوة والعصير المتجولين، أو فواصل استراحة بأغان شعبية قديمة لزيادة التشويق.
بدأ العصر الذهبي للحكواتي قبل قرون عدة أيام الحكم العثماني، لكنه راح يندثر في الستينيات مع ظهور وسائل أخرى للمتعة من الراديو إلى التلفزيون.
ويقول أحد الحاضرين قيس قاسم (71 عاما) "عشت الليلة لحظات من التاريخ الجميل".
ويضيف قاسم الذي يضع عكازيه إلى جانبه "عندما كنا أطفالا، كنا نجلس في الزقاق على ضوء الفانوس، ونستمع إلى حكايات عجوز موصلية تتقن سرد القصص".
أما اليوم، فقد تغيرت الأزمان، بحسب وصفه، و"باتت التقنيات الحديثة حاجزا بين الماضي والحاضر".
هذه التقاليد الرمضانية حاضرة بقوة أيضا في مدينة كركوك المتعددة الإتنيات في شمال العراق.
فبعد يوم صيام طويل، تتوجه غالبية السكان إلى مقاهي المدينة لممارسة لعبة "الظرف والصينية" الرمضانية الحماسية الشهيرة في المنطقة.
تستمر هذه اللعبة طوال الليل خلال شهر رمضان وحتى وقت السحور، وتتخللها حلقات دبكة وأغان فلكلورية باللغات العربية والكردية والتركمانية، وهي اللغات الرئيسية التي يتحدث بها أهالي كركوك.
يعود تاريخ اللعبة إلى عشرات السنين، ويمارسها رجال وفتيان من جميع قوميات كركوك في أكثر من 150 مقهى شعبيا تتوزع في أحياء المحافظة وخصوصا في مركز مدينة كركوك (240 كيلومترا شمال بغداد).
ورغم ارتفاع درجات الحرارة، يحتشد المئات من اللاعبين والمشاهدين يوميا في هذه المقاهي وغالبيتها في مناطق القلعة والقيصرية ورحيماوه والشورجة، وكل منها لقومية مختلفة.
يقول الشاب الكردي شانو عسكر (30 عاما) إن "هذه اللعبة تسمى لعبة القوميات، لأنها تجمع كل القوميات هنا".

تشبه لعبة "الصينية" لعبة "المحيبس" التي يمارسها العراقيون في شهر رمضان في باقي أنحاء العراق.
لعبة المحيبس هي من أكثر الألعاب شعبية خلال شهر رمضان. وتدور اللعبة بين فريقين، يخفي الأول خاتماً في قبضات أفراده وعلى أفراد الفريق الثاني العثور عليه. وفي كل مرة يتم العثور على الخاتم تحتسب نقطة لمصلحة هذا الفريق أو ذاك.
أما لعبة "الصينية" فهدفها العثور على نرد يوضع تحت فنجان من بين مجموعة فناجين قهوة تتنقل على طبق بين المشاركين في اللعبة.
يوضح رعد العزاوي، وهو صاحب أحد المقاهي في حي الإسكان بوسط كركوك، أنه "يتنافس في كل مباراة فريقان يتألف كل واحد منهما من ثلاثة لاعبين يتبادلون الأدوار للبحث عن النرد المخفي تحت واحد من بين 11 كأسا نحاسية" وضعت في صحن معدني كبير يطلق عليه اسم "الصينية".
ويقوم أحد لاعبي الفريقين بطلاء قاعدة "الصينية" بمادة السكر المذاب مع الماء قبل توزيع الكؤوس عليها، لينطلق بعدها الفريق الخصم برحلة البحث عن الخرزة أو النرد تحت واحدة من تلك الكؤوس.
ويفوز الفريق الذي يستطيع العثور على النرد بعد البحث في أقل عدد ممكن من الكؤوس، حيث أنه في كل مرة يعثر عليه تحتسب الفناجين الباقية في "الصينية" نقاطا، والفوز يكون من نصيب من يبلغ النقطة 101 أولا.
كل تلك التجمعات تصب في خانة إعادة الأواصر المجتمعية التي تفككت في العراق على مدى أربعة عقود من الحروب المتتالية.
ويقول الباحث الاجتماعي سعد أحمد إن هذه محاولات "لتوظيف ثقافة الماضي في معالجة مشاكل اجتماعية أفرزتها الظروف".
ويشدد أيضا على أن "إحياء جانب من الطقوس الرمضانية المنقرضة، يؤكد أن التقدم التكنولوجي لن يطغى أبدا على جمال الماضي".