سجال هايدغر وسلاتردايك حول مصير الإنسان من الكينونة إلى الحظيرة
في خضمّ المشهد الفلسفي الألماني خلال القرن العشرين وما بعده، برزت سجالات فكرية عميقة بين مارتن هايدغر وبيتر سلاتردايك، لا سيّما حول مسألة النزعة الإنسانية وإمكانية صياغة "قواعد للحظيرة البشرية". هذه المناظرات لم تكن مجرد حوارات بين فيلسوفين، بل كانت انعكاسًا لتحوّلات جذرية في فهم الإنسان ودوره ومصيره في عصر تخلخلت فيه كلّ اليقينيات التقليدية.
الدكتور محمد بلقاسم مزيان، الباحث والأكاديمي الجزائري المتخصص في الفلسفة والفكر النقدي، مع اهتمام واضح بفلسفة مارتن هايدغر وبيتر سلاتردايك، خاصة في سياق ترجمتهما ونقدهما، قام بترجمة مناظرتي هايدغر وسلاتردايك ("عن النزعة الإنسانية" و"قواعد للحظيرة البشرية") عن النص الألماني، وصدرتا في كتاب عن دار خطوط وظلال الأردنية.
في المناظرة الأولى ("عن النزعة الإنسانية"، 1946)، يهاجم مارتن هايدغر المفهوم الكلاسيكي للإنسانية الذي يعتبر الإنسان مركز الكون وكائنًا عقلانيًا بطبعه. يرى هايدغر أن كل محاولات تعريف الإنسان - سواء كـ"حيوان ناطق" أو "كائن عاقل" - قد أخفقت في الإمساك بالجوهر الحقيقي للوجود الإنساني. جاء ردّه هذا في سياق نقده للوجودية السارتريّة التي رأى أنها تكرّس النزعة الإنسانية الميتافيزيقية ذاتها التي أراد تجاوزها.
بالنسبة لهايدغر، أخفقت النزعة الإنسانية التقليدية في طرح السؤال الجوهري عن الوجود نفسه، محدودةً بإطار أخلاقي أو إنساني ضيّق يتجاهل علاقة الإنسان بالكينونة. لم يرفض هايدغر الإنسانية كقيمة، لكنه دعا إلى إعادة تعريفها من خلال الوجود والزمن واللغة، حيث يصبح الإنسان "راعي الكينونة" لا سيّدها. يستخدم هايدغر مصطلح "Dasein" (الوجود-هناك) ليؤكد أن الإنسان ليس مجرد موضوع للدراسة، بل هو الكائن الوحيد الذي يطرح سؤال الوجود. الحل الذي يقدمه هايدغر هو التحول من النزعة الإنسانية إلى "الاهتمام بالكينونة"، حيث تصبح اللغة والشعر الوسيلتين الأساسيتين لهذا الفهم الجديد، كما يتجلى في عبارته الشهيرة: "اللغة هي بيت الكينونة".
يقول هايدغر: "إن كل نزعة إنسانية مؤسسة ضمن ميتافيزيقا ما، أو أنها هي نفسها تكون بمثابة أساس لها. فكل تحديد لهوية الإنسان يفترض سلفًا تأويلًا للكائن دون السؤال عن حقيقة الكائن، سواء كان ذلك عن علم أو دونه. هذا التحديد يكون تحديدًا ميتافيزيقيًا. لذلك تكشف النزعة الإنسانية - وبالنظر إلى صيغتها في تحديد ماهية الإنسان - عما هو خاص بكل ميتافيزيقا من حيث إنه يكمن في كونها 'إنسانوية'. وبالتالي تظل كل نزعة إنسانية ميتافيزيقية. إن النزعة الإنسانية تسأل بشأن تحديد إنسانية الإنسان، وذلك ليس وفقًا لعلاقة الكينونة بماهية الإنسان. الأحرى أنها تحول دون هذا السؤال، وهي لا تعرفه ولا تفهمه بسبب تأصلها في الميتافيزيقا".
ويرى أن النزعة الإنسانية الأولى (أي الرومانية) وكل أصناف هذه النزعة التي تعاقبت منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، تفترض أن ما هو عام تمامًا في ماهية الإنسان أمر واضح من تلقاء نفسه؛ فالإنسان هو بمثابة "حيوان عاقل". وهذا بالتحديد ليس مجرد ترجمة لاتينية لكلمات يونانية، بل تأويل ميتافيزيقي. إن هذا التحديد الماهوي للإنسان ليس خاطئًا، لكنه محدد من خلال الميتافيزيقا. إن حدوثه الجوهري - وليس فقط حدوده التي أصبحت ضمن "الكينونة والزمان" - بمثابة ما يستحق السؤال. وما يستحق السؤال هو قبل كل شيء ما يعهد به إلى الفكر بوصفه ما هو له لأجل أن يفكر فيه، لكن ذلك أبعد من أن يكون متروكًا لفعل مدمر لمحاولة تشكيك فارغة.
ويخلص هايدغر في مناظرته إلى أنه "حان الوقت أن يتخلص الإنسان من عادة التقدير المبالغ فيه للفلسفة، وبذلك يطلب منها أكثر مما تقدر عليه. إن الأمر التالي ملح في هذه الراهنية الحرجة للعالم: قليل من الفلسفة، لكن كثير من الانتباه إلى الفكر. قليل من الأدب لكن مزيدًا من العناية بالحرف. إن فكر المستقبل لن يكون فلسفة بعد، لأنه يفكر في الميتافيزيقا على نحو أصيل، هذا الاسم الذي يرادف الفلسفة. لكن أيضًا ليس في وسع فكر المستقبل بعد أن يتخلى - مثلما طالب هيجل بذلك - عن اسم 'محبة الحكمة'، وتصبح الحكمة نفسها على صورة علم مطلق. إن الفكر هو طريق النزول نحو فقر ماهيته الأولية. يجمع الفكر اللغة ضمن بساطة القول. واللغة هي بذلك لغة الكينونة، مثلما أن السحب هي سحب السماء. يشق الفكر بمعية قوله أخاديد غير مرئية في اللغة".
بعد عقود، جاء بيتر سلاتردايك ليطوّر هذا النقد، لكن بطريقة أكثر إثارةً للجدل. في محاضرته ثم دراسته "قواعد للحظيرة البشرية" (1999)، لم يكتفِ - مثل هايدغر - بانتقاد النزعة الإنسانية، بل اعتبرها مشروعًا فاشلًا بالكامل، خاصةً بعد فظائع القرن العشرين التي أثبتت أن الخطاب الإنساني لم يحمِ البشر من همجيتهم. يأتي سلاتردايك ليقول إن نقد هايدغر للنزعة الإنسانية لم يذهب بعيدًا بما يكفي. في محاضرته الصادمة، يستخدم سلاتردايك تشبيهًا مروعًا: البشرية كـ"حظيرة" تحتاج إلى قواعد جديدة للإدارة بعد أن فشلت القواعد القديمة. اقترح سلاتردايك أن البشرية بحاجة إلى "أنثروبوتكنيك" جديدة، أي تقنيات لتأديب البشر كما يُؤدَّب الحيوان في الحظيرة. هنا، استخدم لغة صادمة، مقترحًا أن الأدب والفلسفة الإنسانية لم يعودا كافيين، بل يجب اللجوء إلى وسائل أكثر فعاليّة، ربما جينية أو تكنولوجية، لإدارة "القطيع البشري".
يقدم سلاتردايك مفهوم "الأنثروبوتكنيك" (التقنيات البشرية) كبديل للمشروع الإنساني القديم، حيث لا مكان للشعر أو التأمل، بل للهندسة الاجتماعية والعلمية التي تعيد تشكيل الإنسان كما نعيد تشكيل أي مادة خام أخرى. هذا الطرح أثار عاصفة نقدية، خاصة من يورغن هابرماس الذي رأى فيه خطرًا على الديمقراطية وقيم التنوير، متّهِمًا إيّاه بالانزلاق نحو خطاب تحسين النسل.
يرى سلاتردايك أن "الثقافة العالمية، وقد أنجزت حديثًا محوًا عامًا للأمية، أنتجت بذلك مفاعيل انتقائية حادة، خلقت تصدعًا عميقًا في مجتمع الزعيم وأقامت حاجزًا بين المتعلمين وغير المتعلمين. وقد أنجز - تقريبًا - هذا الحاجز الذي يتعذر تخطيه اختلافًا راسخًا بين الأجناس. وإذا أراد المرء - رغم تحذيرات هايدغر - أن يتحدث بعد على نحو أنثروبولوجي، فإنه بذلك بالإمكان تحديد ناس الأزمنة التاريخية باعتبارهم حيوانات، منهم من في وسعه القراءة والكتابة ومن لا يقدر على ذلك. منذاك لم نعد إلا على بعد خطوة واحدة نحو أطروحة أن الناس هم حيوانات بعضهم يربي، في حين أن البعض الآخر يتلقون التربية - هذه فكرة نجدها منذ نظرية أفلاطون بشأن التربية - وهي تنتمي إلى الفولكلور الرعوي لأوروبا. إن شيئًا من هذا يوجد معبرًا عنه ضمن عبارة نيتشه التي ذهب فيها إلى أن 'ترويض الإنسان هو ما كانت تقصد إليه جمعية المدجنيين الغربيين الرعويين، أي مشروعًا للكهان، لذوي الغرائز البولية، وهم كلهم إذ يشتمون خطر تطور خاصية العناد والاستقلال لدى الإنسان، يعملون على مواجهة ذلك في الحال بوسائل الإقصاء والتنكيل. لقد كان ذلك بالتأكيد شكلاً هجينًا، فمن جهة لأن تصور إمكانية سيرورة الترويض على مدى قصير - باعتبارها تكفي بضعة أجيال من هيمنة الكهان من أجل جعل الكلاب ضباحًا، وجعل الناس البدائيين في جامعة بال'".
الفرق الجوهري بين موقف هايدغر وسلاتردايك يكمن في التوجّه العملي مقابل التأملي. هايدغر، رغم نقده اللاذع للنزعة الإنسانية، بقي في إطار التحليل الوجودي، داعيًا إلى "الاستماع للكينونة" عبر اللغة والشعر. أمّا سلاتردايك، فذهب إلى ما بعد هايدغر، محوّلاً النقد الفلسفي إلى مشروعٍ سياسي-تكنولوجي مثير للريبة. بينما كان هايدغر يرى أن خطر التكنولوجيا يكمن في نسيانها للكينونة، اقترح سلاتردايك استخدام التكنولوجيا نفسها كأداةٍ لضبط البشرية. هذا التحوّل من النقد إلى الاقتراح العملي هو ما جعل سلاتردايك أكثر إثارةً للجدل، لكنّه أيضًا أكثر ارتباطًا بأسئلة العصر الراهن حول التعديل الجيني والذكاء الاصطناعي وأخلاقيات البيوتكنولوجيا.
في الخلفية، كانت هذه المناظرة تعكس أزمةً أعمق في الفلسفة الغربية: كيف نتعامل مع الإنسان بعد سقوط كلّ المطلقات؟ هايدغر يحاول إنقاذ الإنسان عبر تعميق مفهومه، بينما يسعى سلاتردايك إلى تجاوز الإنسان نفسه. هذا الجدل يعكس التحولات الكبرى في الفكر الغربي من منتصف القرن العشرين إلى بداية القرن الحادي والعشرين، من الوجودية إلى ما بعد الإنسانية. هل نعود إلى إنسانية معدّلة، أم نتبنّى رؤيةً ما بعد إنسانية تتعامل مع البشر ككائناتٍ بحاجة إلى إدارة؟ هايدغر اختار طريق التأويل والشعر، بينما اختار سلاتردايك طريق الهندسة الاجتماعية. رغم الاختلاف، يبقى الاثنان متّفقين على شيءٍ واحد: النزعة الإنسانية الكلاسيكية لم تعد كافية، بل قد تكون عقبةً في فهمنا لأنفسنا. السؤال الذي يطفو على السطح الآن هو: أيّ الطريقين أكثر إلحاحًا، تأمّل هايدغر أم جرأة سلاتردايك؟ ربما تكمن الإجابة في أن الأزمة الحقيقية هي في اعتقادنا أن علينا الاختيار بين هذين الخيارين بالذات، بينما الحل قد يكون في الاستمرار في طرح الأسئلة الجذرية دون التوقف عند أي إجابة نهائية. ففي النهاية، الخطر الحقيقي ليس في النقد، بل في التوقّف عن التساؤل.