سد النهضة نموذج في الترويج لسياسات تسليع المياه

كتاب "الإتجار في العطش.. " أعده مجموعة من الباحثين في إطار التقرير الذي يصدره منتدى الحق في المياه بالمنطقة العربية.
الكتاب يتناول أبعاد قضية المياه وحق الإنسان فيها في إطار التزامات الدول خارج نطاق ولايتها الإقليمية
الكتاب يستعرض تجارب عدد من البلدان العربية منها مصر وتونس والأردن وفلسطين ولبنان في كيفية إنفاذ وتطبيق سياسات مؤسسات التمويل الدولية

يبرز خطاب سائد تروجه مؤسسات التمويل الدولية بأن إدارة الأحواض النهرية هي قضايا ذات طابع فني بحت، بعيدا عن أي أبعاد أخرى وبخاصة البعد السياسي والتي من بينها سد النهضة باعتبارها قضايا ذات طابع فني، حيث يتم حصر المفاوضات في هذا الجانب، في حين يتم استبعاد ما هو سياسي واقتصادي من تلك المفاوضات. وفي هذا السياق يأتي اتفاق الخرطوم الذي جرى التوقيع عليه بين مصر والسودان وأثيوبيا والذي سبقه اتفاق عنتيبي الذي جرى التوقيع عليه في مايو/آيار 2010 بين عدد من دول حوض النيل باستثناء مصر والسودان وإريتريا.
هذا الكتاب "الإتجار في العطش.. مؤسسات التمويل والحق في المياه بالمنطقة العربية" الذي أعده مجموعة من الباحثين في إطار التقرير الذي يصدره منتدى الحق في المياه بالمنطقة العربية، يتناول أبعاد قضية المياه وحق الإنسان فيها في إطار التزامات الدول خارج نطاق ولايتها الإقليمية، مستعرضا تجارب عدد من البلدان العربية منها مصر وتونس والأردن وفلسطين ولبنان في كيفية إنفاذ وتطبيق سياسات مؤسسات التمويل الدولية، وما يرتبط بذلك من انتهاكات ومشكلات تطال حق المواطنين بالمنطقة العربية في الوصول للمياه.
وقبل أن نتوقف عند دراسة د.عبدالمولى إسماعيل "سد النهضة.. ودور مؤسسات التمويل الدولية في تسليع المياه"، نشير إلى ما أورده التقدير في مقدمته من أنه بات ينظر للمياه كسوق رائجة يمكن أن تدر المزيد من الأرباح للشركات عابرة القومية في هذا المجال مثال شركات فيوليا وشركات فيفاندي.. إلخ، ويكفي الإشارة إلى حجم صفقات الإتجار في المياه سيصل إلى 660 مليار دولار 2020، في المقابل يقدر أن يقيم زهاء 4 مليارات نسمة في مناطق تقاسي من نقص حاد في المياه خاصة جنوبي آسيا والصين. 

غياب التعاون المشترك بين دول حوض النيل في تعظيم الاستفادة من هذا النهر، وبخاصة أن ما يصل من المياه كجريان سطحي والمتمثل في 84 مليار متر مكعب، لا يمثل سوى 5 % فقط

ونظرا لتلك الأرباح التي يمكن أن تدرها الموارد الطبيعية ومنها الماء، فقد تحركت وبقوة مؤسسات التمويل الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية والاعمار الأوروبي وغيرها من بنوك وصناديق مالية أخرى مع الشركات عابرة القومية في محاولات مستميتة للسيطرة على تلك الموارد والعمل على احتكارها بهدف إحكام السيطرة عليها، لتكتمل دوائر الاحتكار لصالح تلك المؤسسات والشركات على الموارد الاقتصادية.
يؤكد د.عبدالمولى إسماعيل أن الجدل المثار حول "سد النهضة" وغيره من السدود التي تقام على الأنهار الدولية يأتي في إطار السياسات الرامية إلى إحكام السيطرة على موارد المياه بواسطة الشركات عابرة القومية وبدعم ومساندة من مؤسسات التمويل الدولية، وبخاصة البنك الدولي والاستثمار الأوروبي.. إلخ. ولعل الهدف من وراء دور هذه المؤسسات هو تحويل الأنهار العالمية التي تدخل ضمن إطار الملك العام للأمم والشعوب التي ظلت تتعاون فيما بينها في إدارة تلك الموارد في إطار القيمة الانتفاعية إلى قيم تبادلية لصالح الشركات الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية. ولعل سد النهضة يمثل واحدا من تلك التجارب التي تهدف لأن تكون نموذجا يحتذى في خلق أسواق دولية للإتجار في المياه.
ويتساءل هل بناء سد النهضة أو غيره من سدود تقام على منابع الأنهار هو حق لدول منابع الأنهار أم كونه مدخلا للتحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية؟ وأيضا لخلق وجني الأرباح بوساطة مؤسسات التمويل الدولية وشركات الاتجار في المياه عابرة القوميات مثل فيوليا..؟ في المقابل يتم تغليف خطابات التحكم والسيطرة على منابع النيل بخطابات من قبيل حقوق الدول في التنمية في الوقت الذي تسعى فيه تلك الدول على الضفتين في المضي قدما في تسليع الموارد الطبيعية وفي القلب منها الحق في المياه.
ويوضح د.إسماعيل أن أثيوبيا يقطنها 90 مليون نسمة يوجد بها 12 نهرا و11 بحيرة عذبة وأربع بحيرات بركانية وتصل كمية الأمطار المتساقطة على الهضبة الأثيوبية بـ 935 مليار متر مكعب منها 590 مليار متر مكعب تتساقط على منابع النيل الأثيوبية، وذلك بخلاف المياه الجوفية المتجددة التي تبلغ 20 مليار متر مكعب، إذن لا توجد مشكلات مائية لدى أثيوبيا من حيث قدرتها على توفير المياه اللازمة للزراعة حيث إن حجم الأمطار المتساقطة على الهضاب الأثيوبية كافيا، ومن ثم فإن المشكلات التي تعانيها أثيوبيا تتعلق بمدى توافر البنية الأساسية القادرة على التعامل مع هذه الوفرة المائية.

لماذا تثار هذه التوترات المائية بين دول حوض النيل الآن؟ وهل يعني أن مياه النيل لا تكفي سكانها الذين يزيد عددهم عن ثلاثمئة مليون نسمة، تمثل مصر ما يقارب الـ 27% منها؟ يجيب د.إسماعيل "الحقيقة أن مساحة النيل البالغة 2.960.000 كيلو متر مربع، لا يستقبل سوى ما يقارب الـ 25% من جملة الأمطار المتساقطة على الهضبة الأثيوبية والأستوائية ومن ثم فإن هناك 75% من جملة الأمطار المتساقطة يذهب الجزء الأعظم منها هدرا سواء في البحر الأحمر أو المحيط الهندي، وإذا كانت الأرقام تتحدث عن أن حصة مصر والسودان معا تصل إلى 74 مليار متر مكعب (55.5 لمصر، 18.5 للسودان) فإن هناك ما يزيد عن أضعاف هذا الرقم تذهب هدرا (وتدور الأرقام بين 1.6 إلى 2 تريليون متر مكعب) وهباء بسبب سوء إدارة الموارد المائية المتساقطة على الهضاب الأثيوبية والأستوائية معا (79.5% من موارد النيل تأتي من الهضبة الأثيوبية، و15% من الهضبة الأستوائية)، ومن ثم يمكن القول إن مياه النيل تكفي دول الحوض جميعا إذا ما أخذت إدارة هذه الموارد بيديها فقط، وهناك من الخبرات الفنية والمالية أيضا ما يكفي إذا ما اجتمعت إدارة دول الحوض على التعاون فيما بينها في الاستفادة من الموارد المائية مجتمعة.
ويتابع "لكن السؤال لا يزال مستمرا: لماذا تثار هذه التوترات الآن؟ وهل يتعلق بالغبن الذي تشعر به بعض دول حوض النيل وبخاصة أثيوبيا لأنها لا تستفيد من مياه النيل وفقا لاتفاقية 1959. أم أن الأمر يعود إلى غياب التعاون المشترك بين دول الحوض في تعظيم الاستفادة من هذا النهر، وبخاصة أن ما يصل من المياه كجريان سطحي والمتمثل في 84 مليار متر مكعب، لا يمثل سوى 5 % فقط".
ويخلص د.إسماعيل إلى أن سعي مؤسسات التمويل الدولية وعلى رأسها البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوربي، وبنك التنمية والإعمار الأوربي يعاونها في ذلك الشركات عابرة القومية، إلى الانتقال من الماء كحق إلى سلعة ولا يقف الأمر عند حدود الموارد المائية، بل يمتد إلى كافة الموارد من الملك العام إلى الملك الخاص باعتبار أن هذه السياسات تحقق فاعلية إدارة مورد المياه. ولا يقتصر الأمر في الترويج لتلك الخطابات على مؤسسات التمويل الدولية فقط بل يمتد إلى منظمات من المجتمع المدني التي تستند عليها مؤسسات التمويل الدولية لاكساب خطابها مصداقية.
ويضيف أنه في هذا السياق يأتي سد النهضة الذي يعد نموذجا في الترويج لتلك السياسات بهدف خلق أسواق دولية للمياه لجني المزيد من الأرباح. ومن ثم فإن كل ما تبذله دول المنبع في الترويج لسياسات تسليع الموارد المائية باعتبارها مدخلا للتنمية من خلال بناء السدود يأتي في السياق الذي يتم الترويج له من قبل مؤسسات التمويل الدولية، وبدلا من التصدي لتلك السياسات من قبل دول المصب والممر كخط الدفاع الأول في صون حقوقها فإنها تمارس الأدوار المفروضة عليها من قبل مؤسسات التمويل الدولية في الترويج لتلك السياسات الساعية إلى تسليع الموارد المائية ومن ثم مزيد من الانتقاص لحقوق المواطنين على ضفتي المنبع والمصب في الوصول للمياه.