سقوط آخر لبريطانيا

بريطانيا اليوم هي مجموع انقساماتها.

ليس الخروج من الاتحاد الاوروبي تحت شعارات مضحكة لا علاقة لها بالواقع والحقيقة من نوع ان بريطانيا استعادت "الحرّية" و"الاستقلال" سوى سقوط آخر لدولة محتارة بنفسها لم تدرك بعد الحرب العالمية الثانية انّها لم تعد قوّة عظمى في هذا العالم.

باتت بريطانيا تسير في اتجاه المجهول. تكفي استعادة التاريخ السياسي لرئيس الوزراء بوريس جونسون للتأكد من ان الرجل لا يمتلك ايّ مبادئ واضحة يريد بلوغها باستثناء موقع رئيس الوزراء. كلّ ما يمتلكه هو نوع معيّن من الذكاء يسمح له بممارسة الانتهازية. تبقى الانتهازية اللعبة المفضلة لدى ابن مدلّل لعائلة ميسورة من اصل تركي أرسلت ابنها الى احدى افضل المدارس (ايتون) واحدى افضل الجامعات (اوكسفورد). لا شكّ ان الانتهازية تحتاج الى ذكاء. لكنّ الامر الذي لا شك فيه أيضا انّ الانتهازية لا تصنع من ايّ شخص ما سياسيا كبيرا يدخل بالفعل التاريخ من ابوابه الواسعة كما دخل ونستون تشرشل او مارغريت تاتشر.

في ما عدا الانتهازية، لا يمتلك بوريس جونسون أي استراتيجية سياسية محدّدة، كما كانت الحال مع مارغريت تاتشر، مؤسسة بريطانيا الحديثة. هذا لا يمنع الاعتراف بان لدى بوريس جونسون معرفة دقيقة لكيفية استغلال الفرص عن طريق ركوب الموجة الشعبية في لحظة معيّنة.

ركب بوريس جونسون موجة "بركسيت"، أي الخروج من الاتحاد الاوروبي واستغل لاحقا الى ابعد حدود تردّد سلفيه في موقع رئيس الوزراء بغية الوصول الى حيث يريد. فديفيد كاميرون لم يحسن تسويق فكرة البقاء في الاتحاد الاوروبي عندما حدّد موعدا لاستفتاء شعبي في حزيران – يونيو من العام 2016. اضطر كاميرون الى الاستقالة وخلفته تيريزا ماي التي لم تكن تمتلك ايّ مؤهلات قيادية تسمح لها بتسيير مرحلة ما بعد الاستفتاء وكيفية الخروج من الاتحاد الاوروبي. كانت ماي تمتلك مؤهلات كثيرة من نوع مختلف، لكنّها كانت ابعد ما تكون عن السياسي اللامع الذي يستطيع السيطرة على نوّاب حزب المحافظين.  

مساء الواحد والثلاثين من كانون الثاني – يناير 2020، خرجت بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. الحدث تاريخي بكل المقاييس. انّها المرّة الاولى التي تخرج دولة من الاتحاد الاوروبي منذ قيام الاتحاد الذي بات الآن يضمّ 27 عضوا بدل 28. ليس واضحا ما الذي ستكون عليه علاقات المملكة المتحدة بأوروبا مستقبلا. ستتوضّح الامور قبل نهاية السنة الجارية اثر مفاوضات بين الطرفين. سيكون على المفاوضات التي ستجري بين حكومة بوريس جونسون والاتحاد الاوروبي معالجة مسائل كثيرة. من بين هذه المسائل العلاقات التجارية والرسوم الجمركية وتبادل المعلومات... ووضع الاوروبيين المقيمين في بريطانيا. هل سيتوجب على هؤلاء الحصول على رخص عمل؟ ما وضع البريطانيين المقيمين في أوروبا؟ هناك مئات آلاف البريطانيين الذين يقيمون في اسبانيا. أكثرية هؤلاء من المتقاعدين الذين يجدون تكاليف الحياة في اسبانيا تتناسب والرواتب التي ما زالوا يتقاضونها. تشير إحصاءات رسمية الى ان عدد هؤلاء يصل الى نحو سبعمئة الف. هناك ايضا مئتا الف بريطاني يقيمون في فرنسا ويستفيدون من الخدمات الصحّية فيها.

مع خروج بريطانيا، أي المملكة المتحدة من الاتحاد الاوروبي بعدما بقيت فيه 47 عاما، ثمّة ملاحظتان تستأهلان التوقف عندهما. تتعلّق الاولى بإصرار اسكتلندا على تنظيم استفتاء في شأن استقلالها وبقائها في الاتحاد الاوروبي. هذا ما اكّدته رئيسة الوزراء الاسكتلندية نيكولا ستيرجن في مؤتمر صحافي عقدته بعيد اعلان نتائج الاستفتاء البريطاني في 2016. عادت ستيرجن، التي لدى حزبها 48 عضوا في مجلس العموم البريطاني، أي ثمانين في المئة من عدد النواب الذين يمثلون اسكتلندا، تأكيد الرغبة في اجراء مثل هذا الاستفتاء مساء 31 كانون الثاني – يناير 2020. ايّ مستقبل للمملكة المتحدة في حال غياب اسكتلندا؟

امّا الملاحظة الأخرى، فهي متعلّقة بالشباب البريطاني الذي ايّد بنسبة كبيرة، تصل الى سبعين في المئة، البقاء في أوروبا. تبيّن ان هناك انقساما آخر بين الشباب البريطاني من جهة والمتقدّمين في السنّ من جهة أخرى في بلد اعتاد فيه الشاب على العيش في المكان الذي يختاره في أوروبا من دون قيود من ايّ نوع.

هل يكفي في السنة 2020 رفع العلم البريطاني واطلاق شعارات ذات طابع عنصري لتأمين مظلة لهبوط آمن من ارتفاع شاهق؟

بدأ البريطانيون يكتشفون ان ذلك ليس كافيا وانّ الطلاق مع أوروبا مسألة في غاية التعقيد، خصوصا في ظل المشاكل التي يعاني منها الاتحاد الاوروبي نفسه الذي عملت بريطانيا في الماضي على توسيعه كي لا تكون هناك قوّة مهيمنة فيه نواتها الدول الست المؤسسة، أي المانيا وفرنسا وإيطاليا ومجموعة بنيلوكس (بلجيكا، لوكسمبورغ، هولندا). من المفارقات ان بريطانيا، التي كانت وراء الدفع في اتجاه توسيع الاتحاد الاوروبي والوصول الى رفع عدد الدول الى 28، تبدو وكأن هدفها اصلا القضاء على فكرة أوروبا الموحّدة. هذا ما جعل المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تقول: "ان هذا جرح عميق بالنسبة الينا كلّنا". وهذا ما جعل أيضا الرئيس ايمانويل ماكرون يتحدّث عن "جرس انذار ذي بعد تاريخي يفترض في ان تفهم معناه أوروبا كلّها وان نفكّر" في ما الذي يعنيه.

ستدفع المملكة المتحدة، التي وقف اكثر من نصفها بقليل مع الخروج من أوروبا، غاليا ثمن نتائج الاستفتاء الذي اُجري في 2016 والذي ترجمت حكومة بوريس جونسون نتائجه على ارض الواقع في الشهر الاوّل من السنة 2020. ستدفع ثمنا غاليا لا لشيء سوى لانّ الازدهار البريطاني، عائد في معظمه، الى ان العلاقة باوروبا التي حوّلت لندن الى اكبر مركز مالي عالمي والى حسن إدارة هذه العلاقة والاستفادة منها ولا شيء آخر. لا شك ان موقع لندن سيتراجع، ذلك ان شركات مالية ومصارف عالمية نزحت الى مدن أوروبية أخرى مثل المانيا وفرنسا وحتّى سويسرا التي ليست عضوا في الاتحاد الاوروبي.

مثلما انّ بوريس جونسون كان الطفل المدلّل لعائلته، كانت المملكة المتحدة الابن المدلّل للاتحاد الاوروبي. لم تدخل بريطانيا منطقة العملة الاوروبية الموحّدة (يورو) ورفضت الانضمام الى الاتفاق في شأن التأشيرة الموحّدة (شينغن) ورفضت الرضوخ لاتفاقات أخرى اقرّت في اطار الاتحاد الاوروبي.

سيبقى بوريس جونسون في موقع رئيس الوزراء فترة أخرى، خصوصا ان لديه أكثرية مريحة في مجلس العموم. سيندم البريطانيون على خياراتهم حتما... الّا اذا اكتشفوا ان لديهم بديلا من أوروبا وان بريطانيا عادت فعلا، بقدرة قادر، بريطانيا العظمى، أي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!