سمعان خوام يطلق عصفوره النزق حرا في بيروت

الفنان يبتعد كثيرا عن استخدام الألوان التي برع في مزجها ومقاربتها نفسيا، وليس شكليا فقط في معارضه السابقة.
طيور عنيفة ومعنّفة تجسد معنى الغياب عبر حضور خافق الحركات
طيور قادرة على فعل ألف حركة بهلوانية في تحولاتها

بقلم: ميموزا العراوي

"الرجل العصفور" هو العنوان الذي أطلقه الفنان السوري اللبناني المتعدد الوسائط الفنية سمعان خوام على معرضه الجديد الذي يقيمه في صالة "أجيال" البيروتية. لم يقدم الفنان لوحات فنية هذه المرة من ضمن معرضه الجديد، بل مجموعة مجسمات مصنوعة من مواد مختلفة يطغى عليها الجفصين تطير أو تتحول لتلتصق بجدران الصالة دون أن تحلّ أو تترك أي أثر فيها، مجسمات تبدو خفيفة الوزن وكذلك حلّت ظلالها، عندما تتكون بفعل الإضاءة، حلّت على مسافة من الجدران، إذ أنها لا تريد أن تستكين إلى أجسادها أو أعشاشها ولا تريد مغادرتها، ربما مثلها كمثل فاعلها الفنان سمعان خوام.
واللافت في معرض الفنان السوري اللبناني سمعان خوام الجديد أنه ابتعد كثيرا عن استخدام الألوان التي برع في مزجها ومقاربتها نفسيا، وليس شكليا فقط في معارضه السابقة، ليقترب أكثر إلى تجريدية المعاني الخافقة بين أجنحة عصافيره وحولها.
كما دخلت عناصر جارحة في منحوتاته، وهي عناصر لم تكن حاضرة بجلاء في معارضه السابقة، وشكل "الجارح" دورا مهما في تشكيل أقدام وأجنحة العصافير فنشرت في الصالة جوا غرائبيا من العدائية.
ما هو موقف زائر المعرض أمام هذه العصافير؟ هل هي طيور عنيفة أم مُعنفة؟ أو ربما هما الاثنان معا، فهي من ناحية مُكتنزة وذات ملامح وديعة ومن ناحية ثانية تبدو وكأنها كواسر بغيضة لا عيون لها كي تعكس أحوال نفسها الحقيقية، وتحرص على الاختفاء تحت ذلك الاكتناز الجسدي ووداعة انعطافات الأطراف.
عند نهاية الجولة في أرجاء المعرض قد يمتد خيال الزائر بعيدا حدّ الاستنتاج أن عصافير سمعان وصلت إلى حد كبير من النضج، بحيث أصبحت قادرة على إخفاء حقيقتها عن الآخرين وعن ذاتها، لذلك ارتدت ألوانها الشبحية التي لا تلمس الألوان بعضها إلاّ بمشحات خجولة ينطفئ أثرها سريعا.
غير أن منطق البياض في معرضه هذا يحيل المُشاهد إلى مكان آخر أيضا، يحيله إلى علاقة العصافير بذاتها أكثر من علاقتها بالخارج وتفاعلها معه، هي في معظمها مشغولة بذاتها، بانكفاءاتها و”بمناوشاتها” الداخلية التي برع الفنان في ترجمتها بصريا "مُعلقة"، إذا جاز التعبير، على جدران الصالة.
ومجسمات العصافير التي عكف خوام على ابتكار هيئاتها بأساليب ومواد مختلفة، تبدو في معظمها "مصبوغة" باللون الأبيض أكثر من كونها بيضاء على بياض جدران الصالة، مما جعلها أكثر قدرة على ارتقاء سلالم الرمزية "الخيالية" التي لا بد أن تكون سكنت روح الفنان طويلا قبل أن تتجسد بصريا في الأعمال.

والعديد من عصافير سمعان خوام تفوح منها كآبة عميقة، عصافير دخل إلى بعضها اللون الأسود فذكرت الناظر إليها بالغربان، ويُمكن اعتبارها جديد خوام في هذا المعرض، عصافير لم تتلون باللون الأبيض، بل اكتسته سميكا كصبغة مُغلّفة ومُصمّمة لمساتها.
وتحيل تلك العصافير بشكل خاص من يُشاهدها أو بعض مُشاهديها على الأقل إلى أيام الحرب الإسرائيلية على مدينة بيروت في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حين كانت الجثث المنثورة بشرا وطيورا تترك لفترة طويلة في الشوارع لعدم توفر فترة هدنة كافية لسحبها، فيتم إلقاء الكلس الأبيض سريعا عليها كي لا تتحلل "في العلن"، بل تحت أكفان مؤقتة من دقيق أبيض يكمّ فظاعة المشهد ورائحة القتل المنبعثة منها.
ارتقت هذه العصافير إلى مستوى التحدث عن معنى الغياب عند تجليه في حضور خافق خفقان أجساد وأجنحة عصافير لم تعد تعرف إن كانت أشباحا أو أمواتا أو نابضة بحياة ما، ولا هي تكترث إلى ما آلت إليه، لأنها غير متأكدة بما أو من تكون؟
وليست في هذا أي مبالغة لا سيما عندما نعود إلى معارض الفنان السابقة التي لم يكل أو يمل فيها خوام من أن يجعلها، أي العصافير، قابلة للتحول من حالة إلى حالة مختلفة حد التناقض.
وتأخذ العديد من المنحوتات المعروضة في الصالة أشكالا مُهجنة يندمج فيها الإنسان مع العصفور، وجاء عنوان المعرض "الرجل العصفور" ليؤكد على هذه الفكرة الأساسية التي بنى على أساسها الفنان معرضه، وشكّل عبرها أحوال طيوره المُلطخة بالجفصين، والقادرة بالرغم من ذلك على فعل ألف وألف حركة بهلوانية في سقطاتها وارتفاعاتها وثباتها وتحولاتها المتعددة الهيئات.
لم يمنح سمعان خوام ذاته ولا عصافيره فرصة الهدوء بغياب اللون، بل جعلها صاخبة أكثر وعاكسة للتحولات والتشنجات التي تتكون لتعيش أو تموت في ذاتها وذات الفنان، كما لم يجعل تكسرات بعض العصافير أو عيونها المُقعرة توحي بالألم الجسدي أو النفسي، فاستولد من ذلك عن قصد أو غير قصد أجواء عبثية لم تعرفها لوحاته أو أعماله من قبل.
يُذكر أن سمعان خوام هو فنان عصامي متعدد المواهب، فإلى جانب كونه مارس التمثيل، هو شاعر ونحات ورسام غرافيتي وفنان تشكيلي لقن نفسه بنفسه أصول الفن قبل أن ينخرط في ورشات عمل فنية داخل لبنان وخارجه كما في دبي وأبوظبي ومدينتي جنيف ولندن، وقد شارك في معارض مختلفة للفنون التشكيلية والتصميم الغرافيكي عبّر من خلالها عن آرائه المتعلقة بالحرب والسلم والبيئة والاضطهاد وحرية الرأي وما إلى ذلك من أفكار يعيش فصولها العالم العربي المعاصر.