سمير جريس يستكمل ترجمة روائع دورنمات القصصية

جريس يترجم ثلاث قصص طويلة تحتوي على كل ملامح أدب دورنمات النثري، والتي تعالج القضايا الإنسانية الكبرى.
فريدريش دورنمات من أشهر كتاب المسرح المعاصرين في البلاد الناطقة بالألمانية وفي العالم
يوسف إدريس كان من أشد المعجبين بمسرح دورنمات
سمير جريس يرى أن دورنمات أديب كلاسيكي كوني، يتناول بشكل مشوق القضايا الكبرى التي شغلت الإنسان على مر العصور

يستكمل المترجم سمير جريس ترجمته لـ "روائع دورنمات القصصية" الصادرة عن دار ديوجنيس السويسرية عام 1992، فبعد ترجمته للجزء الأول منها ليصدر عن دار الجمل بعنوان "أبو حنيفة وأنان بن داوود"، أصدر أخيرا عن دار الكتب خان الجزء الثاني والممثل في ثلاث قصص طويلة هي "الخسوف" و"السقوط" و"حرب التيبت الشتوية"، والتي تحتوي على كل ملامح أدب دورنمات النثري، والتي تعالج القضايا الإنسانية الكبرى: العدالة والحرية والحرب والعلاقة بين الإنسان والسلطة السياسية والدينية وغيرها.
وفريدريش دورنمات من أشهر كتاب المسرح المعاصرين في البلاد الناطقة بالألمانية وفي العالم، ومن مسرحياته التي حققت نجاحا عالميا "زيارة السيدة العجوز" و"علماء الطبيعة" و"الشهاب"، ووفقا للمترجم "كان يوسف إدريس من أشد المعجبين بمسرح دورنمات، وزار إدريس الكاتب السويسري في بيته منتصف الثمانينيات وأجرى معه حوارا مطولا نشره لاحقا في كتابه "عزف منفرد"، كما كتب عدة روايات منها "القاضي وجلاده" و"القضاء" و"الوعد". توفى دورنمات عام 1990 قبل أسابيع من الاحتفال بعيد ميلاده السبعين.
يرى سمير جريس أن دورنمات أديب كلاسيكي كوني، يتناول بشكل مشوق القضايا الكبرى التي شغلت الإنسان على مر العصور، حتى إذا كان ما يكتبه "ليس إلا" قصة بوليسية. في أعماله يبتعد دورنمات ابتعادا عن السيرة الذاتية وعن التناول المباشر للأحداث التاريخية، وهو بذلك يختلف عن معظم أدباء جيله، سواء من موطنه سويسرا، مثل ماكس فريش، أو في ألمانيا، مثل جونتر جراس وهاينريش بل وكريستا فولف. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه أكثر أهمية وعمقا وإمتاعا من بعض من نالوا جائزة نوبل.

فيما واصل الرئيس الجهاز العسكري خطابه، سددت بصري إلى نورا، كانت تقف مرتدية الروب الصباحي الذي انفتح، مستغرقة في الانصات إلى رئيسها. انقضضت عليها وطرحتها أرضا ورفعت فخذها، منذ مدة طويلة لم أنم مع امرأة

ويضيف: دورنمات كما نرى بوضوح في القصص الثلاثة التي تضمها هذه المجموعة هو شاعر الكوارث، الكاشف عن الأعماق الإنسانية المظلمة، والمتنبئ بالجنون العالمي المدمر، لا تمنح قصصه ومسرحياته الأمل الكاذب، بل تفتح عين القارئ على اتساعها ليرى العالم كما هو أو ربما أبشع مما هو.
في القصة الأولى يعود دورنمات إلى مسرحية "زيارة السيدة العجوز" وهي المسرحية التي ارتبط اسمه بها طويلا. وربما ظلت فكرة هذه المسرحية تشغله حتى وفاته، فكتب لها عدة صياغات نثرية، نشرت آخرها عام 1990 تحت عنوان "الخسوف". في المسرحية تعود امرأة ثرية إلى قريتها لتنتقم من خطيبها السابق الذي تخلّى عنها. أما في قصة "الخسوف" فيرجع "السيد العجوز" إلى قريته ومسقط رأسه لينتقم من الجميع.
ويشير جريس إلى أن دورنمات في "الخسوف" يتناول مرة أخرى أحد موضوعاته الأثيرة متأملا في ماهية العدالة، ومسلطا الضوء على غرائز إنسانية أزلية، مثل الرغبة في الانتقام والتشفي، وكذلك النهم والطمع الذي لا يعرف شبعا. وفي قصة "السقوط" 1971 يرسم دورنمات بورتريها بارعا لمجموعة من المتعطشين إلى السلطة والمتصارعين عليها والمتشبثين بها، وهي مجموعة يسيطر عليها رعب فقدان السلطة. 
يرسم دورنمات في "السقوط" نظام السلطة في قاعة الاحتفالات حيث اعتاد أعضاء الأمانة السياسية العامة للحزب الحاكم الاجتماع، هذا الاجتماع الذي يحضره الزعيم والرئيس ومدير المخابرات ووزراء الداخلية والدفاع والخارجية والزراعة والذرة والصناعة وأمين عام الحزب وكبير منظري الحزب ورئيس مجموعات الشبيبة، وينتهي بقتل الزعيم.  
أما قصته الكابوسية "حرب التيبت الشتوية" فيصور فيها نهاية العالم، أو العالم بعد نهايته، بعد الحرب العالمية الثالثة، الحرب الذرية التي ستبيد الجميع. وهي أمثولة عن الطبيعة البشرية وشهوة السلطة والقوة والمتاهة البشرية التي نعيش فيها. الإنسان هنا ذئب بالنسبة لأخيه الإنسان وعدوه، وهو ضائع في متاهة السلطة الأبدية، نظرته محدودة بمنظور النفق الذي لا يجد مخرجا منه، أما وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده فهي القتل. في هذا النص يقدم دورنمات رؤيته لفترة الحرب الباردة، لكنه كمعظم نصوصه نص متعدد الطبقات يحتاج إلى أكثر من قراءة لكي يبصر القارئ طريقه في هذه المتاهة القصصية الجميلة.
من أجواء "الخسوف":
لم يتوقف القمر عن الإظلام والخسوف، فتغير لونه من البني الطيني الصدئ، فيما النجوم المشتعلة التي لم تكن موجودة من قبل تحيط به، إلى أن أمسى في النهاية عينا متآكلة متوهجة، تغطيها البثور والدمامل البشعة، عينا تفيض شرا، تنظر إلى الثلوج المصطبغة بالأحمر القاني وتحدق إلى الفلاحين الذين يمسكون بالمعاول التي تبدو ملطخة بالدماء. "اهرب يا ماني" يزعق صاحب "الدب"، "اهرب"، ثم خر على ركبتيه. 
"أبانا الذي في السموات"، بدأ الصلاة وفي أثره باقي الفلاحين، "ليتقدس اسمك". وحده العجوز جايسجرازر ظل يتمرغ في الثلوج، سينفجر القمر من الداخل، وسيكتسح صديده وقيحه كل شيء ثم ينتهي العالم، راح العجوز يصيح ويهلل ويقهقه، أما الفلاحون فواصلوا الصلاة: "ليأت ملكوتك".. لم يبد على ماني أنه أدرك أنه صار حرا، إذ ظل يجلس بلا حراك في مكانه. "لتكن مشيئتك، كما في السماء، كذلك على الأرض". أخيرا نهض ماني، وفي تلك اللحظة بزغت شرارة بيضاء خلف الدمل المتوهج في السماء بلون أحمر كالنيران".
من أجواء "حرب التبيت الشتوية":  

مسرحياته حققت نجاحا عالميا
شاعر الكوارث

"هل معك المفتاح"، سألتني نورا. أومأت، فقالت "فلنذهب" سرنا بحذر عبر القاعة ذات القبة المدمرة، ثم عبرنا البهو إلى الجناح الشرقي. توغلنا في الممر، ورغما عنا بقينا واقفين. قلت لها "أنا لا أدري شيئا". فأجابت "لا بد أن نتعود على الظلمة. وهناك دائما ما يرى". بقينا بلا حراك. قلت لها "كيف تجرأت وفعلت ذلك". "ماذا؟"، "أنت تعرفين ما أقصد". لزمت الصمت. كانت الظلمة أمامنا لا تقهر. "كان لا بد أن ندافع عن موقعنا هذا"، فأجابت "هل أرغمك إينجر؟" ضحكت. طبعا لا ولكن لولا ذلك لما كان هناك سبب كي أسكن هنا. هل ترى الآن شيئا؟" كذبت "بعض الشيء"، "فلنواصل السير". توغلنا بحذر في الممر. شعرت أنني كالأعمى "لماذا كنت ثائرا عليّ؟"، سألتني نورا، "حتى فيما سبق كنت أتفانى في خدمتكم جميعا" واصلت تحسس طريقي في الظلمة. "نعم، في خدمتنا نحن"، قلت غاضبا "يا عزيزي"، ردت نورا "أعتقد أن زمنكم مضي ولن يعود". نزلنا درج القبو. "هنا"، قالت "انتبه الدرج 22 درجة". أحصيتها أثناء النزول. بقيت واقفة. سمعت أنفاسها. "الآن يمينا". قالت، "في هذا السور". تحسست الحائط المبطن بألواح ووجدت المكان الذي استجاب لي. مررت بأناملي باحثا عن ثقب الباب، كان المفتاح ملائما. "أغلقي عينيك" قلت لها، ثم انفتحت أبواب المخبأ.
شعرنا أن المكان مضاء. تحسسنا طريقنا إلى الداخل، وانغلق الباب خلفنا. فتحنا أعيننا فوجدنا أنفسنا نقف في غرفة الكمبيوتر. تفصحت نورا الأجهزة، "مولدات الطاقة على ما يرام"، قالت. سرنا إلى جهاز اللاسلكي، شغلته نورا، ولدهشتنا سمعنا "أيها الآتي من الفجر الوردي"، بصوت بالغ الارتفاع حتى إن الرجفة قد اعترتنا. "أهالي البلومليسالب"، صرخت نورا. فقلت مهدئا "إنه اللاسلكي الأوتوماتيكي. من المستحيل أن يكون أحد منهم لا يزال على قيد الحياة". ولكننا عندئذ سمعنا صوت هوسمان المذيع المحبوب الذي يقدم برنامجا ليليا به موسيقى ونوادر ومقابلات. 
"حان وقت الاسترخاء، الآن يأتيكم هوسمان. عزيزتي المستمعة، عزيزي المستمع" قال الصوت، "الساعة الآن العاشرة مساء". ثم ذكر هوسمان التاريخ وأعلن تكرار بث حلقة وطنية. "مازالوا يعيشون"، صرخت نورا، "مازالوا يعيشون. التاريخ تاريخ اليوم". ثم ارتفع من السماعات صوت رئيس القسم العسكري. "رئيسي!"، وخرجت نورا عن طورها. ألقى الرئيس بصوته الجهوري خطابا إلى الشعب أعلن فيه أنهم كلهم ـ الحكومة والبرلمان وأجهزة الدولة، إجمالا أربعة آلاف من النساء والرجال، وإن كانت الأغلبية من الرجال، إضافة إلى عاملات الاختزال ـ كلهم نجوا بسلام من الكارثة تحت البلومليسالب دون أن يصابوا بأضرار من جراء الأشعة، ومعهم مواد غذائية تكفي جيلين أو ثلاثة أجيال، وأن المفاعل النووي لا يزال يعمل، يمنحهم الضوء والهواء ـ وهو ما يجب أن يخرس نهائيا كل معارضي الطاقة النووية ـ وخدمة الشعب، وإن من المستحيل مغادرة البلومليسالب لأن العدو يتسم بالخسة والغدر، وقد يرمي قنبلة فوق البلومليسالب تحديدا، ولكن ليس عليهم أن يخشوا شيئا، إن على السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وجهاز إدارة الدولة أن يضحوا بأنفسهم من أجل الشعب، وهو ما فعلوه فعلا.
وفيما واصل الرئيس الجهاز العسكري خطابه، سددت بصري إلى نورا، كانت تقف مرتدية الروب الصباحي الذي انفتح، مستغرقة في الانصات إلى رئيسها. انقضضت عليها وطرحتها أرضا ورفعت فخذها، منذ مدة طويلة لم أنم مع امرأة. واصل الرئيس حديثه قائلا إنه سمع ببهجة عظيمة عن النصر الذي تحقق على العدو الغادر في لاندك، وأنه مقتنع بأن الجيش والحلفاء الشجعان قد اقتربوا من النصر النهائي في أعماق البراري الآسيوية، وربما حققوه بالفعل، ولكنه وكافة أعضاء الحكومة لم يسمعوا الأخبار بعد عن العالم الخارجي للأسف الشديد لأن الإشعاع القوي للغاية في البلومليسالب يمنع على ما يبدو استقبال الإشارات اللاسلكية. راح يتكلم ويتكلم ونورا تصغي إليه. أخذت ألهث وأتأوه، وهي تضغط بكفها اليمني على فمي حتى تسمع رئيسها ولا يفوتها كلمة منه. كنت أرقد فوقها أصعد وأهبط، نهما لا أشبع، وهي لا تصغي إلا إلى الصوت الآتي من السماعة، تاركة جسدها حرثا مستباحا. 
من الممكن بالطبع، قال الرئيس شارحا بصوت يشف عن القلق، بالطبع ليس من المستبعد، وإن كان من غير المحتمل، أن تكون الحرب قد اتخذت مسارا مختلفا غن المتوقع، وأن يكون التفوق العددي الهائل والتفوق في أنظمة التسليح التقليدية للعدو قد مكنه من الانتصاروأنه قد غزا البلاد.