سهير حسني تستدرج رواد معرضها إلى عالم تهيمن عليه العيون
تونس - حازت بعض لوحات المعرض الشخصي الأول للفنانة التشكيلية التونسية سهير حسني الشواشي الذي احتضنه فضاء "التياترو5" في الفترة الممتدة من الحادي عشر إلى غاية الحادي والعشرين من يونيو/حزيران الماضي تحت عنوان "مائة عام من المرارة وسمكة الأمل"، على اهتمام رواده وكان من بينهم الناقد الفني محمد المي الذي قدم قراءة للوحة "الرحلة الأخيرة لاوليس" التي التقطها من بين بقية الأعمال المعروضة.
ويقول المي "في هذه اللوحة المفعمة بالدلالات، تستدرجنا الفنانة سهير حسني إلى عالم غريب في ظاهره، مألوف في باطنه، عالم تهيمن عليه العيون، لا كأعضاء بصرية فقط، بل كرموز وجودية وثقافية ونفسية. نحن أمام غابة من العيون، متشابكة، متقاطعة، متراكبة، تتحول فيها الرؤية من فعل بيولوجي إلى حالة فلسفية ـ جمالية مركبة".
ويضيف "تتوسط اللوحة عين ضخمة مهيبة، قزحيتها متداخلة، شحمتها كأنها موجة سائلة أو مرآة كونية، يحيط بها هدب كثيف يخترق الفضاء. هذه العين ليست مجرد مركز بصري، بل قطب وجودي تدور حوله بقية العيون الصغيرة المتناثرة على خلفية سوداء ـ وكأنها سماء مشظاة أو شبكة عصبية حسيّة".
ويرى أن هذه العين الكبرى "قد تكون رمزًا للذات الكلية، تلك التي ترى وتُرى في آن، تحيط بكل شيء من الداخل والخارج، وقد تمثل كذلك صورة الآخر الكلي: المجتمع، النظام، الله، الوعي الجمعي، أو حتى آلة المراقبة الحديثة التي ترصد الفرد في كل تحركاته".
ويلفت إلى أن "تكرار العيون داخل اللوحة يُنتج شعورًا بالتكاثر والضغط. العيون هنا ليست استنساخات مريحة، بل تتفاوت في الأحجام والألوان، وتبدو أحيانًا متأهبة، حذرة، مستنفرة. كأننا في مواجهة جدران من نظرات لا تمنحنا لحظة عزلة.. هذا التكرار يمكن قراءته من منظور نفسي كعلامة على القلق الوجودي، أو من منظور اجتماعي كثقافة مراقبة دائمة، حيث تُلغى الخصوصية، ويُراقب الإنسان في حضوره وغيابه، في جسده وذاته. نحن أمام مشهد رؤية شاملة خانقة، تكشف أكثر مما تحجب، وتُفكّك أكثر مما تُلمّ".
وتخرج البنية التكوينية للوحة عن المألوف، وفق المي، قائلا "ليست لدينا خلفية واضحة، ولا ترتيب هرمي تقليدي، بل نظام خلايا بصرية، تتوزع فيه العيون كأنها مقاطع نسيجية أو فسيفساء حسّية. هذا التشظي البصري يحاكي تشظي الذات المعاصرة، التي لم تعد متماسكة بل مفككة، موزعة بين مرايا متعددة لا تعكس حقيقتها بل تخلق تكرارات وهمية لها".
وتضفي الألوان التي تتنوع بين درجات البني، الأخضر، والعنبر، على اللوحة طابعًا حيويًا عضويًا، أشبه بجسد حي ينبض بنظراته، لكن هذه الحيوية ليست بالضرورة دافئة، بل قد تكون مقلقة، طاردة، خانقة، هي عين الحياة كما هي عين الخطر، وفق المي، متابعا أن "اللوحة تنتمي إلى خطاب بصري يمكن وصفه بالسريالية النفسية، حيث يُعاد تأويل الواقع من خلال رموز مألوفة (كالعين) توضع في سياقات غير مألوفة. هذه العملية تخلق لغة جديدة للتعبير عن الباطن، لغة لا تعتمد على السرد أو التفسير، بل على الإحساس والانفعال".
ويؤكد أن "العيون هنا ليست أداة للنظر فقط، بل أداة للتفكيك والتحليل والاستبطان. هي التي ترى ما لا يُقال، وتكشف ما لا يُراد كشفه. بهذا المعنى، فإن عمل سهير حسني هو تمرين فلسفي ـ بصري حول سؤال الرؤية: هل نحن من يرى؟ أم نحن موضوعات مرئية؟ وهل نتحكم في نظرتنا للعالم، أم أن العالم يفرض علينا نظرة معينة من خلال ثقافته وسلطته وتقنياته؟".
ويقول المي "ليست هذه اللوحة مشهدًا جماليا فقط، بل صرخة بصرية في وجه ثقافة مشبعة بالرؤية والرقابة والانكشاف، إنها دعوة للتأمل في فعل 'النظر ' نفسه، وفي معنى أن تكون مرئيًا أكثر مما تكون موجودًا. في 'مملكة العيون ' هذه، تتقاطع الذات بالآخر، الداخلي بالخارجي، البصري بالميتافيزيقي، لتنتج لوحة لا تُشاهد فقط، بل تشاهدنا أيضًا".
ويرى المي أن معرض سهير حسني الذي يحمل رواده في رحلة عبر آلام الإنسان وأماله وأحلامه، تجربة ولدت كبيرة، مكتملة، ناضجة، إنها طبعت أعمالها بطابع لا سابق له ولا لاحق حتى يصدق عليها صفة الفنانة المبدعة لأننا إذا عدنا إلى لسان العرب فإن معنى الإبداع: هو الإتيان بالشيء لا على مثال سابق له. وقد أنت سهير بأعمال لا سابق لها فيما شاهدنا وعرفنا، أن أعمالها تستند إلى خلفية معرفية ورؤية فكرية عبرت عما في نفسها وفسرته بما يشغل فكرها محددة موقفها من ذاتها ومن الآخر ومن العالم فحدد الفن شكل إقامتها في العالم، أن أعمالها هذه التي قدتها على مراحل من الزمن بتؤدة دلت على أنها ليست بصدد البحث عن هويتها الفنية بل لها هوية قد تشكلت فعبرت عنها وأخرجتها من القوة إلى الفعل ومن التصور إلى الإنجاز.
ويقول في التدوينة التي نشرها على صفحته بموقع فيسبوك "يحق لنا أن نهلل لميلاد تجربة ولدت مكتملة ولفنانة تعي ما تقترح من منجز جمالي يؤهلها لتكون في مصاف كبار المبدعين.. قلت ما قلت دون حذر أو توجس أو أخذ مسافة لعل الفنانة تحيد عن المسار في قادم السنوات وقادم أعمالها..؟ وربما تكذب ادعائي فتنحو منحى آخر يؤكد أنها بصدد البحث عن ذاتها ونحت هويتها؟ من يدري؟ ولكني رأيت أن مهمة الناقد الفني تستوجب ركوب المغامرة ومصاحبة المبدع الحق ومؤازرته قصد مزيد دفعه وتأييده وسهير حسني مبدعة حق".