سوريا.. ثنائية الإخوان المسلمين والديكتاتورية العسكرية

موقف جماعة الإخوان المُبيَّن أعلاه يَتّخِذ في منهجيّتها القرآنية من الطرح المسلّح إحدى الوسائل لتطبيق مشروعها مثل اعتبارها الديموقراطية وسيلةً أيضاً ما يعكس جهلَها بها وبالسياسة على حد سواء.

بقلم: عبد الله حسن    

جاء حكم البعث لسوريا جاء بانقلاب عسكري؛ هذا الانقلاب العسكري تُعارضه فئات عديدة من الشعب لأنه (انقلاب أصلاً)، تعارضه فئات سياسية، يعارضه المحامون، وتعارضه الجبهة الوطنية الديموقراطية الدستورية (مجموعة من المثقفين، محامون، أطباء، مهندسون، صيادلة) …. هذا الانقلاب يحمل المشروع (الاشتراكي الراديكالي) كنظام حكم، يعارضه التجار والإقطاعيون لأنه اشتراكي (تعلمون كيف تسير الأمور الاقتصادية داخل هذا النوع من الأنظمة)، ويعارضه الإخوان لأنه -حسب اعتبارهم- (ملحد، وقياداته من الأقلّيات) ولأنهم يريدون حيازة السلطة منه أصلاً…. نتجَ عن هذا (الانقلاب) (الإشتراكي) وضع اقتصادي مُزرٍ (يعارضه الجميع)، وتسبّب هذا الوضع الاقتصادي باحتقان لدى السوريين كلهم لا سيما الإخوان في حماة، الذين كان بالنسبةِ لهم ذلك (السببَ البعيد للاحتجاج المسلّح).

أما السبب المباشر فقد كان حادثاً طلابياً تعاملت معه السلطات البعثية بصورة استفزازية، حيث كتب أحد طلاب مدرسة «عثمان الحوراني» على اللوح عبارة «لا حُكم إلا لحزب البعث»، فشتم طالبٌ آخر الحزب وكتب «لا حكم إلا لله»، فاعتقلت السلطات الطالب، وجرت مداخلات كثيرة لإطلاق سراحه لكنها لم تثمر، بل أصدر «شبلي العيسمي» وزير التربية والتعليم آنذاك قراراً بنقل عدد من مدرسي مادة الديانة في المدينة إلى أماكن أخرى، فأضرب طلاب المدارس الرسمية والخاصة احتجاجا على ذلك. وبعد يومين من الحادث خرج المصلون من صلاة الجمعة بمظاهرة احتجاج قمعها الجيش بقسوة، سقط على إثرها قتيل وبعض الجرحى، فأضربت المدينة إضراباً عاماً اشتركت فيه جميع فئاتها، وعندما حاولت السلطات فتح بعض المتاجر بالقوة اصطدمت بمقاومة مسلحة مما أدى إلى دخول الجيش إلى المدينة ولا سيما أحياءها القديمة، وعزَلَها عن الخارج تماماً.

لم تخجل جماعة الإخوان المسلمين ولا مرة في التعبير عن موقفها الساذج من البعث، إذ تعبِّر في أدبيّاتها عن موقفها منه بكونِه، «استولى على السلطة فاتحاً بذلك الباب أمام الأقليّات الطائفية لتمسك بمفاصل القوّة والسّلطة في سورية، لأن معظم أعضاء اللجنة العسكرية البعثية المشرفة على نشاطات التنظيم العسكري كانوا من الأقليّات؛ وتكوّنت اللجنة العسكرية في البدء من خمسة ضباط، من بينهم ثلاثة علويين وهم: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وإسماعيليّان هما: عبد الكريم الجندي، وأحمد المير؛ وبعد انقلاب الثامن من آذار وسِّعت اللجنة، وبقيت العناصر الفعّالة فيها من النصيريين (العلويين)، ولذلك سُميت هذه اللجنة بلجنة الضّباط العلويين؛ ومن المعروف أن حزب البعث العربي الاشتراكي ليس حزباً علمانياً بالمفهوم الغربي للعلمانيّة فحسب، بل هو حزب مُعادٍ للإسلام في منطلقاته ومنهاجه».

أولاً: ينم عن فِكر قاصر لأبسط مفاهيم (الدولة)، (الأرض)، (الشراكة)، (العلمانية)، (الديموقراطية)، و(الدستور)… فالدولة عندهم ينبغي أن تكون دينية، بمعنى أنهم يميّزون مواطني تلك الدولة على حسب عقائدهم وانتماءاتهم الدينية بشكل شمولي أخرق، ويبتغون تعميم عقيدة معينة لتكون قانوناً على الجميع؛ والأرض بالنسبة لهم هي العالم كله، بمعنى أن مشروعهم لا يقتصر فقط على حدود الدولة، إنما يؤمنون بمبدأ الثورة العابرة للقارات (لينين)، وهذه نظرة شمولية أخرى للعالم والتاريخ؛ والشراكة بالنسبة لهم هي مشاركة المسلمين في بناء الدولة بشكل أساسي، وهذا فهم مغلوط للديموقراطية نفسها أيضاً، والتي هي بالنسبة لهم (وسيلة وليست غاية) وتعني «الشورى/ أي شورى المسلمين خصوصاً». كما تَعني بالنسبة لهم حُكم الأكثرية (عوضاً عن حكم الشعب) لأن هذه الأكثرية هي الشعب!

ثانيا: موقف الإخوان المنغلق والفقير هذا (موقف حزب ديني من نظام عسكري ديكتاتوري) يضع حداً لمحاولات أخذه على محمل الجد، ويقف عائقاً أمام إقامة علاقات دولية معتَبَرة خارج إطار المجتمع الدولي الإسلامي بشكل خاص؛ مَن سيساند حزباً دينياً لإقامة مشروعه كـ بديل عن ديكتاتورية «البعث» التي تجد أصلاً مَن يساندها في ديكتاتوريات أخرى شبيهة تُعادي العالم كلّه مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا؟.

ثالثاً والأهم: هو أن موقف جماعة الإخوان المُبيَّن أعلاه يَتّخِذ (في منهجيّتها القرآنية) من الطرح المسلّح إحدى الوسائل لتطبيق مشروعها (مثل اعتبارها الديموقراطية وسيلةً أيضاً، ما يعكس جهلَها بها وبالسياسة على حد سواء)؛ حتى وإن أصرّت الجماعة على العمل السياسي السلمي في بداية نشأتها إلا أن احتماليّة لجوئها إلى العنف المُفرط واردة بنسبة عالية جداً، وهذا ما سنراه لاحقاً، كما سنرى أن الأطروحات الإخوانية المسلّحة التي تعمل وفق مبدأ «ردّ الصائِل/ الباغي» وتستند إلى القرآن هي في الوقت نفسه مَجال واسع للأخذ والرد، وتحمل في طيّاتها بذور التطرف بنسبة عالية وغير محدودة ولا قابلة للضبط.

في ذلك الوقت (لانزال في العام 1964) كان شابٌ متشدد من جماعة الإخوان المسلمين يُدعى «مروان حديد» قد تأثّر بأفكار (سيد قطب) ويرغب بتطبيقها في سوريا، كان حديد مقتنعاً بأنّ «الجهاد» هو (الطريق الوحيد) للتخلص من «بلاء كحزب البعث الملحد» ولهذا كان يبشّر بذاك الجهاد للإطاحة به والتنظيمِ ضده في حماة، انطلاقاً من جامع «البحصة» ثم جامع «السلطان» الذي يتوسّط المدينة، ليحتلَّ مكان الشيخ «محمد الحامد» الذي كان يديره، ويجعل من ذاك المسجد مُنطلَقاً للدعوة إلى «الثورة» المسلحة ضد حزب البعث، ولما دخَل الجيش «حماة» وعزلَها عن الخارج تماماً اعتصم (حديد) وأنصاره داخله، ظناً منه أنه يستطيع استخدام المسجد كورقة يؤلّب فيها الرأي العام السوري (المسلم بشكل خاص) على البعث أكثر؛ لم يكن يعلم أن مزيداً من العناد واستخدام الرموز الدينية للحشد البدائي ضد سلطة عسكرية مستبدّة سيدفع البعث (المستعدّ) من جانبه إلى استخدام المزيد من العنف لضبط فوضى السلاح تلك في المدينة.

ظلّ الاحتقان الشعبي حاضراً زمن أمين الحافظ، وفي تلك الأثناء كانت تتعالى فعلاً في أوساط جماعة الإخوان المسلمين طروحات المواجهة العنيفة مع النظام أكثر فأكثر مع مرور الوقت، لكن على الرغم من أجواء الجماعة الحانقة بشدة أكثر من غيرها على البعث، إلا أن قرارها كان عدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية (مفتوحة) معه، كانت الجماعة تفضّل (في ذلك الوقت – منتصف الستينيّات) طريق العمل السلمي للوصول إلى السلطة على الرغم من الاحتجاج المسلح 64، الأمر الذي لم يَرُق عدداً من أتباعِها الذين سلكوا خطّاً آخر، ليكوّنوا نواة ما سمّيَ لاحقاً (1968 / بعد عامين على إعدام قطب) بـ «الطليعة المقاتلة».

كان تنظيم «الطليعة المقاتلة» أول تجربة جهادية في سوريا تتخذ من العنف سبيلاً وحيداً للتغيير، إذ أدّت مساعي «مروان حديد» طوال سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات إلى نمو شبكة من المتشدّدين الذين كانوا يرغبون في دفع جماعة الإخوان إلى خوض المواجهة المفتوحة مع النظام.

تأثّر حديد بأفكار قطب مثلما أسلَفنا، وحاول إقناع التنظيم العام للإخوان المسلمين بالإعداد للمواجهة مع السلطة، وتشكيل ذراع عسكرية للجماعة، ولما لم ينجح في ذلك، توجَّه مع تلاميذه للإعداد للقتال، وذلك من خلال العمل المسلح (في معسكرات الشيوخ/ أسسها ياسر عرفات) مع حركة «فتح» الفلسطينية في غور الأردن بين العامي (1968 – 1970)، وهناك تمكّن من إعداد «النخبة» الأولى لتنظيمه الجهادي (تنظيم الطليعة المقاتلة). انتهى الحديث عن سوريا هنا بانقلاب حافظ الأسد وتسلّمه منصب رئاسة الجمهورية في العام 1971 لتبدأ قصة جديدة.

 نُشر في صفحة درج
مختصر مقال: "نائية الإسلام الراديكالي والديكتاتورية العسكرية (2):  سوريا البعث والإخوان المسلّحون”