سيرتي هي ما قرأتُ

الكاتب والصحافي العراقي علي حسين يعاصر روادَ الأدب والفكر ويشاهد شغف هؤلاء للكتب.
لا متعة ألذُ مما يتذوقه في القراءة ومتابعة محتويات مظانٍ ومصنفات أدبية وفكرية وعلمية
لا يعوضُك الكتابُ برأي قادة الفكر والأدباء عن تجارب الحياة

كه يلان مُحَمَد

يقولُ سارتر إنَّ وجود الإنسان يسبقُ ماهيته فإنَّ الكينونة هي حصيلة التجارب وما يكتسبه خلال إختباراته والإحتكاك بفضاءات مُتعَددة طبعاً أن الرغبات والإهتمامات غير الغريزية تتوالدُ بفعل مؤثرات الواقع القائم، وقد يكون المرءُ حراً في اختياراته لكن هذه الحرية لا تلغي دور عوامل البيئة والظروف على تنشئة الكائن الإنساني وإنفتاح مداركه العقلية والحسية.
قُدر للكاتب والصحافي العراقي علي حسين أن يعاصر روادَ الأدب والفكر ويشاهد شغف هؤلاء للكتب. فضلاً عن  ذلك فقد أمضى صاحب "دعونا نتفلسف" شطراً  من شبابه ويفاعته في المكتبة حيثُ كان يعملُ ومنذ ذاك الوقت لم يبدلْ صحبة الكتب بهواية أخرى، ولا يجدُ متعة ألذُ مما يتذوقه في القراءة ومتابعة محتويات مظانٍ ومصنفات أدبية وفكرية وعلمية. 
إذا كان ماركيز حدد الغاية من وجوده بمهنة الروي والسرد فإنَّ القراءة هي ماهية الوجود لدى علي حسين، فسيرة حياته هي ما قرأه واقتناه من العناوين والكتب. يسردُ في كتابه الرابع "غوايات القراءة" الصادر بطبعة مشتركة من - أثر السعودية والكتب العلمية العراقية - قصته مع الكتب وتدرجه في القراءات. يُذكر أن الكاتب له أسلوب مميز في تناول مضامين الكتب ويلاحظُ المتلقي تمكنه في الربط بين حلقات الموضوع والإنتقال من كاتب إلى آخر دون أن يخل ذلك بسلسلة إسترساله. 
المشروع
لا يعوضُك الكتابُ برأي قادة الفكر والأدباء عن تجارب الحياة. فليس الاثنان على النقيض بل تُزودك القراءةُ بأدواتٍ تُمكنك من رؤية على مستوى أوسع وتُقدمُ فرصة الإنفتاح على عصور وأزمنة مُختلفة. وتصاخبُ شخصيات أضافت إلى تاريخ البشرية بإنجازاتها المُتنوعة "إنَّ قراءة الكُتب الجيدة هي بمثابة مُحادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية" كما يقولُ رينيه ديكارت. 
قد تجدُ من بين هؤلاءِ منْ يصلحُ ليكونَ قدوةً، ومازادَ من رغبة كاتبنا في القراءة وطورها بمرور الزمن هو تنفيذ ما سمعه من الروائي الكبير عبدالرحمن منيف عن أهمية تحويل القراءة واقعاً يعيشهُ. كما إستفادَ مؤلف "سؤال الحب" عما قاله هنري ميللر فبرأي الأخير من الخطأ تصنيف الكتب إلى السيئة والجيدة لأنَّ ما لا يعجبك سيفتحُ لك الطريق نحو عنوان آخر.

hosain
علي حسين

هدفُ علي حسين مما ينشرهُ من الكتب هو مشاركةُ الآخر في عملية القراءة وبث الشغف للمُثابرة في هذا المجال، والتنوع فيُ المُطالعة. وهذا يعني أنَّه صاحب مشروع خطه واضح بدأَ بـ "صحبة الكُتب" وأعقبه "دعونا نتفلسف" ومن ثم "سؤال الحب" و"غوايات القراءة".
زهرة العمر
يعتبرُ علي حسين أنَّ أجمل سنوات حياته هي ما عاشها بين الكتب إذ قضى عشر سنوات، من الخامسة عشر إلى خمسة وعشرين من عمره، في المكتبة التي كان يتعرفُ على الكُتاب الذين ييبحثون عن ضالتهم بين الأرفف. بالطبع يستفيدُ من تعليقات زوار المكتبة حول العناوين والأعمال الأدبية فهو يُورِدُ جانباً من آراء المتابعين والمهتمين بالروائع العالمية حيثُ يخبرهُ عبدالرحمن منيف بأنَّ هناك كُتاباً آخرين غير جوته قد ألفوا عن "فاوست" ومنهم الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي أصدر عملاً مسرحياً بعنوان "فاوست كما أراه". وفي ذات السياق يذكرُ علي حسين بأنَّ مؤلف "شرق المتوسط" نصحه بقراءة "فاوست" بترجمة عبدالرحمن بدوي ومن ثُمَّ يتناولُ رحلته مع جوته وروائعه الخالدة لافتاً إلى نشأة الكاتب الألماني وروافده الثقافية وتأثير روايته الشهيرة "آلام فارتر" على المذاق الأدبي، فكان هذا العملُ إرهاصاً لعصر الرومانسية.
كما يتعمقُ وعي كاتبنا بالأدب الفرنسي وتنوعه عندما يسمعُ من العلامة علي جواد بأنَّ عمر هذا الأدب من عمر الحضارة الأوروبية. ويفيضُ جوادُ في الحديث عن خصائص غوستاف فلوبير وإختياره للدراسة في فرنسا كان بغرض الغوص في الأدب الفرنسي ومعرفةِ ما يضمُه تراث هذا البلد من الأعمال الفذة. 
ويفهمُ علي حسين من ملاحظة جلال الخياط بأنَّ ما قرأه عن المتنبي هو نزر يسر لما نشر حوله. فلا يكتفي كتابُ واحدُ للإحاطة بمن أصبح ماليء الدنيا بشعره المُعبر عن الحكمة والفخر والإعجاب بالذات. كما يتعلمُ من الناقد المسرحي يوسف عبدالمسيح ضرورة عدم التسرع بالحكم على أي كاتبٍ بناءً على أثر أدبي واحد فكان الإيطالي لويجني بيراندللو أوسع مما يتراءى في مسرحية "الجرة" وبعد مزيدٍ من القراءة يكشفُ الخيط الواصل بين رؤية مؤلف "المنبوذة" وأتباع الفلسفة السُفسطائية.
وعندما يطلبُ القاضي من أنطونيو غرامشي إلتماس العفو يقولُ الأخير "لستُ شخصية من شخصيات مسرح بيراندللو تستبدلُ قناعها بين لحظة وأخرى "مايعني أنَّ الشخصيات الروائية والمَسرحية أداة للإبانة عن نماذج بشرية مُتعددة ومستويات الفهم والوعي. أمرُ يحيلنا إلى ماقاله إمبرتو إيكو عن حظوة الشخصيات السابحة في تضاعيف الرواية بالبقاء أكثر من أسماء تذكرها كتب التاريخ. 
ولا يختلفُ رأي الأديب العراقي فؤاد التكرلي بهذا الشأن فهو كما ينقل عنه علي حسين يعتقدُ بأن للكتب حياةً مثل البشر ثمة نوع من الكتب يعيشُ طويلاً والآخر يخبو وهجه سريعاً. هذه الذكريات التي يضمنها علي حسين في صفحات كتابه تُذكرك بما قاله ستيفان زفايغ عن غزارة  معرفة بائع الكُتب ودرايته بأصناف المعارف ومواكبته لحركة الفكر أكثر من الأستاذ الجامعي لأنَّ الأخير تتحكم به العقلية الأداتية. 

hosain
غزارة  معرفة بائع الكُتب 

الحس الصحافي 
لا يكتفي علي حسين بإبداء رأيه بشأنِ المؤلفات الأدبية والفكرية فقط بل يُمررُ آراء عدد من المشاهير حول ما كان محل اهتمامه هذا إضافة عن رؤيتهم لفعل القراءة، كان صموئيل بيكيت يتمتعُ من قراءة كتاب واحد عدة مراتٍ وذلك أداة لخلط الواقع بالوهم برأيه، كما أنَّ القراءة هي رديف للحرية عند توماس جفرسون زدْ إلى ما سلف ذكره فإنَّ صفحات هذا الكتاب تظهرُ أنَّ الثقافة العلمية والأدبية ليستا ضفتين مُنفصلتين، فكان برتراند راسل يقرأُ روايات غوغل ويروق له أسلوب صاحب "النفوس الميتة" وتهكمه بالإقطاعيين أكثر من ذلك فإنَّ جول فيرن سبق رواد الفضاء عندما سرد قصة إنطلاق رحلة من الأرض إلى القمر روائياً.
وما غذى خيال الصبي هو قراءته لـ "ألف ليلة وليلة" كما يوجدُ تواصل مستمر حسبما يذكر علي حسين بين الفلسفة والعلم فأبرز علماء القرن العشرين آنيشتاين قد إتخذ من كانط مثله الأعلي في التفكير المنهجي. وتأثر ستيفن هوكينغ برواية "آلة الزمن" فمحتوياتها قد خففت لديه الشعور بالإحباط، ويتوقف علي حسين عند حكايات مرافقة لإصدار بعض المؤلفات التي حركت المياه الراكدة في المُجتمعات المركونة إلى الدعة واليقينيات. 
يتبعُ الكاتبُ في تنظيم مادته وخلاصة قراءاته أسلوب التقرير الصحافي ما يبعد التعقيد والإلتواء من أقسام هذا المؤلف إلى جانب رأيه الشخصي وذكرياته يشير إلى من كان له السبق حول الموضوع الذي يتناولهُ وقد يضمُ فصل واحد عدة شخصيات من مجالات مختلفة فرويد مع فرجينا وولف ونابوكوف، وايت ويتمان مع أرنست همنغواي، دويستوفسكي مع مكسيم غروكي، هكذا تصطف أعلام الأدب والفكر والعلم متجاورةً أمر يؤكد وحدة المعرفة وإستحالة فصلها إلى أجزاء.