شاعران من السودان يمدحان العقاد
في عام 1943 زار الكاتب والشاعر والمفكر المصري عباس محمود العقاد (1889 – 1964) السودان عدة أسابيع، ومكث في الخرطوم وكان ريحانة المجالس والمنتديات الثقافية. وحاضر في دار الثقافة ولحَّن الموسيقار إسماعيل عبدالمعين قصيدة له مطلعها "يا نديم الصبوات ** أقبل الليلُ فهاتِ".
وكتب عنه الشاعر منير صالح عبدالقادر (1919 – 1994) قصيدة بعنوان "العقاد في السودان" جاءت من بحر الخفيف، ووقعت في 31 بيتًا بروي النون المكسورة. وهي تذكر مآثر العقاد وأفضاله على الفكر العربي المعاصر، والشاعر يصور وجود العقاد في السودان في مطلع قصيدته (المصرَّع) بقوله:
حقَّقَ اللهُ حائراتِ الأماني ** يومَ حلَّ العقّادُ بالسودانِ
خفقتْ حولَه القلوبُ وجاشتْ ** جيشانَ الورودِ بالأفنان
وهو يرى مصر في شخص العقاد، فيقول:
هذه مصرُ قد تدانَتْ فأضفتْ ** حُرَّ أثوابها على السودان
مصرُ مهدُ العلومِ والأدب الحَقْـ ** ـقِ، وروضِ الحضارةِ الفينان
ويستحضر الشاعر تاريخ العلاقات بين مصر والسودان ويقول:
إنْ يكُ الدهرُ بدّدَ الشملَ حينًا ** نحن في الهمّ والأسى سِيّان
سوف يبقى على الزمان قويًّا ** خالدًا ما يُوشِّجُ النِّيلان
ثم يعود للعقاد مرة أخرى، ويصفه بالشاعر العظيم، موضحًا أن الطبيعة في السودان ترحب أيضا بالعقاد، فالنيل يشدو، وشاطئاه يرسلان رنَّة السرور، والزهور والعبير يفوح في السودان من أثر تلك الزيارة الميمونة. ثم يتوجه الشاعر إلى فكر العقاد وإبداعه مثمنًا علمه ورسالته وحلو حديثه وشعره.
يذكر أن الشاعر منير صالح عبدالقادر ولد في الخرطوم، وفيها توفي. تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي ثم الثانوي في الخرطوم، إضافة إلى تلقيه دراسات على يد عدد من علماء عصره. عمل مديرًا لصيدلية العاصمة الشهيرة، وقد كانت ملتقى للأدباء، كما عمل في الصحافة، فرأس تحرير جريدة "الثورة" الناطقة بلسان ثورة الفريق إبراهيم عبود الذي حكم السودان بين عامي 1959 – 1964. كان عضوًا في اتحاد الأدباء، وفي ندوة صيدلية العاصمة السودانية المثلثة.
له ديوان: "أشتات من أشتات" صدر بالخرطوم عام 1978. وله دراسة عن أديبات السودان، كما كتب مقدمة لديوان الشاعر إدريس جمّاع: "لحظات باقية".
أما الشاعر بابكر أحمد موسى (1913 – 1989) فقد كتب قصيدة بعنوان "العقاد الشاعر" تبدو في ظاهرها مدحًا للعقاد، ولكن من يتأملها يجد أنها تحمل فكرًا وفلسفة ونظراتٍ في الحياة والناس، وفي طبيعة الشعر. وقد وجد الشاعر في شخصية العقاد وحياته وفكره وشعره، ما هو قريب من شخصيته وأفكاره، فكانت هذه القصيدة التي وقعت في 32 بيتًا، وجاءت من بحر الطويل بروي الراء المكسورة، وكأن العقادَ هنا مرآةٌ يرى فيها الشاعر نفسه.
يقول الشاعر في بداية القصيدة مخاطبًا العقاد:
هي النفسُ فاسبرْ غورها واقدَ الفكْرِ ** وإلا فذرها غيرَ مسبورة الغورِ
فما البحرُ لُـجِّيّاً تلاطمَ موجُهُ ** إذا قِيستِ النفسُ العميقة بالبحر
وهذه المقدمة لا تحمل أي نوع من أنواع المدح والثناء، بقدر ما تحمل قضية فلسفية حول النفس البشرية العميقة.
ويعترف بابكر أحمد موسى بأن العقاد جَلا أو كشف لنا من هذه النفس ما كان مبهمًا، مثلما كشف أو جَلا الدُّجى، أو سوادُ الليل وظلمتُه مطلَع الفجر.
جلوتَ لنا منها الذي كان مبهمًا ** كما قد جلا ذاك الدجا مطلعَ الفجر
يقول العقاد في شعره:
والشعر من نَفَسِ الرحمن مقتبسٌ ** والشاعرُ الفذُّ بين الناس رحمنُ
والعقاد "يرى أن الطريق الواضح المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه الشعر هو تصوير حالات النفس، وعلى هذا فالشعر الصادق هو شعر الحالات النفسية، ويراعي العقاد أن هذا النوع من الشعر يفتقر إليه أدبنا العربي قديمًا وحديثًا".
وينفي الشاعر أن ما يقوم به العقاد كان يأتي عن طريق التنبُّؤ أو الحدس أو قراءة الطالع، ولكن يأتي عن طريق ترويض الشخصية وجمع الأخبار عنها، مثلما فعل مع ابن الرومي في كتابه "ابن الرومي حياته من شعره"، ويقول:
وما كنت قد أُنبئتها غيرَ أنها ** تضيء إذا ما راضها المرء بالخُبْر
ويتعجب بابكر من وجود العقاد بين الناس في مصر، بل في الشرق كله، وهم لا يشعرون به، ولا يرونه، أو يرونه ولكن لا يشعرون بقيمته، ولا يقدرونه حق تقديره، فيقول:
يرونكَ هل يدرون ما أنت بينهم ** رويدك حتى يستفيقوا على أمر
وكيف يرون النور أعشى عقولهم ** وكيف يرون الدرَّ في صدف الدرّ
فما الشرقُ يدري ذلك العقل بينه ** ولا مصرُ تدري ويحَ مصرك من مصر!
يذكر أن الشاعر بابكر أحمد موسى وُلد في مدينة أم درمان (السودان)، وتوفي فيها. تلقى تعليمه الأولي والأوسط بأم درمان، ثم التحق بكلية غُردون وتخرج فيها، ثم ابتعث إلى بريطانيا في دورة تدريبية لطرق تدريس اللغة الإنكليزية. عمل معلمًا للغة الإنكليزية في المدارس الثانوية بأم درمان. كان من أعضاء المنتدى العلمي الذي يقيمه الطيب السرّاج بأم درمان. اشترك في عدد من المهرجانات الشعرية بالسودان. نال الجائزة الأولى للشعر في كلية غُردون أثناء دراسته بها عام 1939 عن قصيدته "خطاب إلى النيل".
له ديوان بعنوان "في الظلال" 1991، ومسرحية شعرية بعنوان "الذبيح" تضمنها ديوانه. كما أن له عددًا من المسرحيات، منها: الفلاح الفصيح ومسرحيات أخرى.