شاعر تونسي شاب: قصيدة النثر التونسية أنثى

عزيز يحياوي نموذج مدهش للجيل الجديد من الشعراء والكتاب في تونس الذين يسعون إلى الحضور بقوة داخل المشهد الابداعي داخل تونس وخارجها.
المشهد الشعري التونسي يعيش فورانًا وجنونًا يكتنفه الاختلاف، تعيش فيه الأشكال الشعرية بسلام
النقد التونسي يدفن الشباب في مقبرة جماعية

نصوص الشاعر التونسي الشاب عزيز جمال عبدالناصر يحياوي تشكل عالما من الدهشة والتوهج والتألق سواء جاء نصه شعرا أو سردا، فهو على الرغم من حداثة سنه حيث لم يتجاوز الـ 21 عاما من عمره بعد، فإنه يملك طاقة جمالية رهيفة في نسج رؤاه وصوره وصياغة لغته، ويقدم عالما تجتمع فيه روح التمرد والألم والخوف والبحث، يقلب فيها تناقضات الواقع ومراراته ويقرأ آفاقه حتى ليحتد أحيانا في سرده خاصة فتنفلت منه اللغة. 
يحياوي نموذج مدهش للجيل الجديد من الشعراء والكتاب في تونس الذين يسعون إلى الحضور بقوة داخل المشهد الابداعي داخل تونس وخارجها، ويتطلعون لكتابة نصوص تكسر تابوهات التقليدية لغة وصورة ورؤية، وتقدم روحا جديدا للشعر التونسي. هو عضو في رابطة الكتاب التونسيين الأحرار فرع الوطن القبلي، شارك في مهرجان الأدباء الشبّان بقليبية، وشارك في بيت الرواية التونسي وأخذ الجائزة الأولى في أفضل تقديم لرواية عربية وهي "موسم الهجرة إلى الشمال"، عمل مع موقع Tunisia 24 كمقدم للكتب، وكتب المراجعات فيها، ونشر نصوصه في كتابين جماعين "قطاف الورشات" و"عبق لاحق"، واحتفت بتجربته أخيرا صفحة "بيت النص"، وهو يكتب الآن اليوميات والشعر ومقبل على كتابة الرواية.
يقول يحياوي إن الكتابة بدأت لديه بدافع الغيرة، وأن النصوص الشعرية أو السردية التي كانت له في مراحل التعليم لم تنم فيه إلا بعض الخيال، وأضاف "بدأت أكتب بدافع الغيرة والتفوق على أختي الشاعرة وجلب القليل من الكتب التي تتحصل عليها إثر الفوز بالمسابقات الأدبية، كنت أتمنى أن أحصل على مثل تلك الكتب الأنيقة الموّشحة دائما بغطاء ذهبي لامع، كانت الحسرة تتملّكني عندما أراها وأرى نظرة أبوايّ المشجعّة والفخورة لابنتيهما الشاعرة، بعد تردّد شديد حسمت الأمر وقررت أن أكتب، اشتريت دفترا وقلمًا حبريا فخما وبدأت، لم يكن الأمر سهلًا أصبح الدفتر فوضى والأوراق تُنتزع منه وتلقى مرارا في القمامة، شتمت نفسي ونسيت ما كتبت، بقيت لفترة طويلة بعيدًا عن الحروف، لا أعرف كيف رجعت تحرك شيء ما بداخلي وأمرني بالرجوع، كتبت قصيدة عن حبّ لا أعرفه وأخذت تلك الجائزة اللعينة، رجعت إلى المنزل والكتب أمامي طيلة اليوم أحضنها أقبّلها أشمّ رائحتها أقلبّها مئات المرات بين يديّ، لم أتركها للحظة وعندما داهمني النوم لم أتركها أيضًا جعلتها تنير حلكة الأحلام الطويلة وتدفئ برود الوسادة، من الغد رجعت إلى الدفتر كتبت وقلت لنفسي حسنا لقد وقعت في شرك الكتابة إنّها اللعنة الأبدية.

النقد في تونس يهتم أكثر بالتماثيل العجوزة الكبيرة بسنها لا نصوصها، نقد ينسى الشجيرات الخصبة ويهتم بتلك الباسقة الهرمة التي لن تثمره مجددا أبدا

كلا النصين الشعري والسردي يتجاذبان يحياوي، وقال: كل ما في الأمر أنّ الشعر يشدّني والسرد يشدّني ولا يمكنني الفصل بين هذين الكائنين المتوحشين، ربّما عليهما أن يتصالحا أكثر لكيلا يموت أحد منهما، عليهما أن ينصهرا معًا في بوتقة واحدة، الشعر يحتاج إلى السرد لأنّه ببساطة لم يعد ديوان العرب لكنّ اللغة العربية نفسها تحتمل الاختلاط بين الجنسين، لأنّها لغة مثخنة بالجماليات اللغوية التي جعلتها خصبة وشاعرية طبعا نتيجة تاريخ شعري حافل.
وحول ما إذا كانت روح التمرد لها علاقة باضطرابات البحث عن صوتك الابداعي الخاص، أم أنها نابعة من واقع ضاغط، قال يحياوي: الموت، أحلامنا الصغيرة التي سرعان ما تجهض، الخوف من المستقبل، المشاهد القاتمة النازفة التي تعترضنا في الطرق، العروبة الممّزقة، التعرق الدائم والإحساس المباشر بالضعف بالذلّ بالسخط في هذا العالم، هذه أشياء تجعلني أكتب بقوّة بعنفٍ عن واقع سيء ومزعج، ولا يسعني إلا أن أعري ما يجب تعريته، إنّنا نعيش عراء مرئيا إننا سيئون وقلوبنا محركات معطوبة، نخفي عرينا بحماقة فجّة، مهمة الكاتب هي كشف ذلك العري المرِئي وكسر كل التابوهات والابتعاد عن الأكاذيب السمجة، عندما أكتب أزيل من جسدي كمّا هائلا من المسامير الصدئة أزيلها أشحذها جيدّا ثم أرشقها في قلب كل شيء رديء ومتعفن.
ولفت: لقد وهبني الربّ لغة عظيمة، لغةً طيّعة تعرفني جيدّا كما أعرف جسدي، تسكنني من الداخل، اللغة عجينة أصنعها لكي أكوّن خبزًا يغذي نهم الروح المستمر، هي بلا شكّ مرآة الكاتب قطعة من جسده، اللغة ملامح الكاتب والملامح هي الهوية التي لا تزول.
وأكد يحياوي أنّ المشهد الشعري التونسي يعيش فورانًا وجنونًا يكتنفه الاختلاف، تعيش فيه الأشكال الشعرية بسلام، ويحقق الشعر التونسي كل يوم الانتصارات وآخرها كان فوز منصف الوهايبي بجائزة الشيخ زايد عن ديوانه "الكأس ما قبل الأخيرة". وبالنسبة لجيلي من الشباب فهنّاك طاقات عظيمة حتما ستعطي الكثير للشعر العربي، نحن محظوظين كجيل لأنّ الانترنت أتاحت لنا التعرف على شِعاب الشعر الكثيرة، هذا حسب اعتقادي ما جعل النصوص الشابة تقفز عن المعتاد وتضيف روحًا مبتكرة. فقط هناك أمر لطالما أزعجني هو الفقر اللغوي المدقع الذي يسكن الكثير من الكتاب الشباب وأعتقد أنّه سيُتوارث إن لم يجتث. 
 ورأى أن الموقف واضح من قصيدة النثر فقد وجدت حظوة كبيرة في تونس، وهي شكل من الأشكال الشعرية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وأعتقد أنّها أضافت الكثير إلى الشعر، قصيدة النثر التونسية خلقت أسماء عملاقة مجنّحة في سماء الشعر. هناك إقبال كبير على كتابتها ربّما لأنّ الوزن أرهق كثيرا الأرواح العربية، لا يُفسر الشعر على أنّه صعب أو سهل ولكنّني أرى أنّ هذه القصيدة تحتاج إلى وعي حاد وفهم شرس وواضح للشعر، وهذا ما شوّه صورتها قليلًا لأنّ من يكتبها ينسى أنّها تحتاج إلى تلك الروح الواعية والمتمردة، يمكن القول بأنّ قصيدة النثر التونسية أنثى، النساء يكتبنها بقدرة عجيبة وكأنّ الشعر يسكنهنّ من الداخل. 
وقال يحياوي: أقرأ كل ما تقع عليه يداي من شعر عربي مع أنّ السرد يأخذني إلى عالمه أكثر، هناك ملايين من الشعراء العرب وقليلة هي النصوص التي ترّج، أبحث عن تلك النصوص طوال الوقت، ما يضاعف سعادتي هو أنّني أجدها مترجمة إلى لغات عدّة، الترجمة تفتح قلب الشعر العربي للعالم. هناك سؤال يخامرني دائما عندما أرى اهتمام القرّاء المتزايد بالسرد، أخاطب نفسي وأقول هل فعلا سحب السرد البساط من تحت أقدام الشعراء؟ هل انتهى زمن الشعر وبدأ زمن الحكاية؟ 
وختم أنّ النقد في تونس يهتم أكثر بالتماثيل العجوزة الكبيرة بسنها لا نصوصها، نقد ينسى الشجيرات الخصبة ويهتم بتلك الباسقة الهرمة التي لن تثمره مجددا أبدا، النقد التونسي بطريقته هذه يدفن الشباب في مقبرة جماعية.
غيابٌ مفخّخٌ
ما أوحشَ الغيابَ حين يرتادُ 
دفء دمِنا 
فينحَر أعناقَ اللهفاتِ المعلقة على حبلِ الوريد 
ربـي! 
قدْ ضعت في تلافيفِ البداية والنهاية 
وغُصَّ فمي برمال الصحاري الهاجرة 
لم أعرف جوابًا ولا طريقًا 
يقودُني إلى مشتهايَ حيث الفواكهُ 
وحيدًا أتدلى من عروش الخَيْبة 
وفي صمت المساءات المتكلّسةِ 
كصباحٍ بلا عشّاق أو ليلِ بلا ارتعاشة جسدين 
أجِدُني معلقًا تحتيَ الموت 
كأنَّ فرحي ألجمَ أبوابَهُ 
وصار سرابًا في ممالكِ الجليد 
ربي! 
لامست يداي المرتجفتان 
طينكَ 
حتّى تبخّرت قطراتُ الأُمنياتِ الأخيرةِ 
وتضوعت رائحة شواءٍ 
من خيوط كانت خيوطَ الأغاني 
تسافر الآنَ رمادًا 
في فراغِ خاوٍ من الموسيقى 
إذا أقول وأسألني :
ـ هل رأيتُ أحدًا يقف مثليَ على ذيل ثورٍ برشلوني؟ 
ـ هل رأيتُ وجهًا متهالكًا كوجهيَ حين يستحيلُ ساحة للحروبِ؟ 
لا لم أرَ !
لم أرَ سوى جسدي المُلقى على قارعة المقابر 
يكلم المحاربينَ 
النائمينَ
الطيّبينَ
الهادئينَ بلا زيفٍ 
الذين ينتظرون حبّةَ قمحِ وماء يُصافح الذكريات 
وعينايَ، عينايَ حجرتان أو ضفتان 
من الدموع الآسنة 
ربي ! 
يعوي الغيابُ 
فتستيقظ الريحُ الجَائعة مع صداه 
إنها ليلة لاكتمال القمرْ
أو ربما ليلة لانتحار القمرْ

تحطّ الريح 
على كَتِفِ امرأةٍ قَرَويةٍ 
ناهزت نِصْفَ الألم 
ومازالت إلى الآنَ 
تخيط من ابتساماتها عباءاتٍ لرجال التراب 
وتغني أغانيَ لأطفال يبحثونَ عن الهويّة والماء 
ومازالت إلى الآنَ 
تُعِدُّ الخبزَ المسائي 
لصباحها الذي لم يأتِ بعدُ 
اليومَ 
تُحِسُّ بألمٍ يضاجعُ كَتِفَها 
تعتقد لوهلةٍ 
أنّه الروماتيزمُ اللقيطً 
لكنّها ترى الصورةَ 
أمامَ عينيها الغارقتين في عسلِ الجبالِ 
صورة صبحها وقتَ السفر 
إلى مُدنٍ ملأى بالنجيع 
وبعد شهقة، سقوط مدو على الإنتظار، تراتيل على قبور الأولين 
تعدُّ الفَطور وتعلق الملابسَ النظيفةَ 
على غصن زيتونٍ نائمٍ 
ثمَّ تموت 
***
تحطّ الريحُ 
على كَتِفِ رجُلِ مسنٍ مَنسي 
تعب من السفرِ 
وآنَ له الآنَ 
أن يستريحَ من المنفى والمحطاتِ القميئةِ 
يعودُ إلى مدينته وبَيْتِهِ الحجريّ
يتذكر أباه، أمه، إخوته
وحبيبَتِهِ الأولى صباحْ 
كيفَ شَرِبَ ذاتَ ليلة رُضابَ شفتيّها 
ونامَ كطفلِ مشرّدٍ بينَ مُفترقِ ثدييّها 
يتذكر عناقيدَ السؤال الأولى وحصَانَهُ عنترةَ الأغرّ
" آهٍ يا عنترة 
لقد كنت أسرعَ من الوقتِ 
أعتقَ من زجاجة نبيذٍ لم تعرف الهواء والضوء 
لقد كنت صلبًا كقطعة فولاذٍ يغطيّها الحريرُ
غيّرَ أنَّ العَشِيرة الفخمةَ أنكرتكَ 
وصرت حصانًا يأكلكَ الحصارُ "
يُحسُّ المسافرُ بألمٍ يضاجعُ كتفه 
لربما هو تعبُ الحقائبِ 
أو تعبُ التشتت من منفى إلى منفى 
يرى بعينين تشبهان 
جوهرتين نسيتا عند قدوم الغُزاة 
صورةَ الحمائمِ
التي كانت تطير من صدره الفتي 
مطبوعةً على أنقاض الجدار التليد
وبعد صمتٍ في المدى الشائك المعتم 
يعدُّ المسافر حقائبه 
يودّع وداعةَ ظله 
وملامحَ الحكايةِ 
ثمَّ يمضي إلى محطة القطار الجديدة 
إلى منفى اللاّوقت 
ومن يومياته
ننظر إلى وجوهنا في المرآة، نلاحظ شحوبًا، تعرقًا، تعبًا أسودَ صنعه الوقت وكثيرا من الندوب. كلّ يوم ننزع من أجسادنا أكواما من السكاكين المشحوذة بحرفية عالية، ننزعها والدم ينزّ من الجلد المكلوم بقوّة وفظاظة. نستقبل الحياة القاتمة بالكذب، يرافقنا طويلا في طريقنا نحو السماء البعيدة، يخفف خيباتنا، جروحنا، وأحلامنا الصغيرة التي سرعان ما تُجهض، يساعدنا الكذب في الهروب والانزواء، نبدّد به ضيق الحقيقة لنلج أرض الخيال، نحبّ الأرض سريعا ونأبى المغادرة نعشقها كأنّها اللعنة، ندمن عليها حدّ الإذلال، نعيش فيها بسلام ورخاء حتى ننسى من نكون وكيف هو الحاضر الواقع، بعد وقت طويل من الدهشة نفيق نفتح الأبواب فإذا بنا أمام أكوام من الأخبار المفخّخة والذكريات الضحلة.
نغلق الأبواب ونعود إلى غواية الأرض ومسرّاتها اللامنتهية. اليوم وطأت يداي المملكةَ الزرقاء، الأخبار المتجددة عن الوباء المستجد منتشرة كالعادة في أرجاء المملكة لكنّ هناك شيء لافت للأنظار، شعب المملكة يتحدث بحماس عن السمك الكاذب، السمك الذي يأكله الشعب كلّ يوم ولا يعرف بل يعرف إنما يداري الأمر في كلّ مرة. العالم يحتفل وكأنّ الكذب فانٍ بعد هذا الاحتفال السريع، العربيّ يحتفل كذلك وربّما احتفاله أشدّ وقعًا وصخبا إكراما لصديقه الأزلي، العربيّ يحتفل بقوّة، بشراسة، بشراهة، شعوب الفضاء تحتفل وتشرب النبيذ المعتّق على جمجمته، يتأوه العربيّ يطلب الرحمة والغفران، تسكته شعوب الفضاء بضربة قاصفة وتكذب. لقد كان يوما مريعا مليئا برائحة السمك التي لا أحبّها.