شاعر في بخار الماء

ديوان أحمد شافعي "77" يحقق صورة مُثلى لفكرة الكتاب الشعري برغم كون قصائده تخرج من سكك وطرق متباينة.
أرقام أو فصول تتفاعل معاً لتصنع سيرةً تخييلية لرحلة وعي وروح وجسد كائن هو أحمد شافعي
كون القصائد بلا عناوين تخلق لها حياةً مستقلة 

على كثرة الدواوين التي تصلك لا يلفت نظرك من وسطهم ويلمس جانب روحك الذي يبحث عن المتعة المرتبطة بالإدهاش والجِدة إلا صاحب النظرة الخاصة والأداء المغاير أو الذي يقارب الأمور من زاوية أكثر رحابة أو حتى أكثر ضيقاً من المعتاد. المهم أنه يحاول أن يفجر الشعرية من مسارب أخرى ويصيغ قصائده من حروف مصفوفة بطريقة تنبئ عن فلسفة أو توجه ما يتمايز عما يملأ صفحات الدواوين. 
من هذه الدواوين المتميزة ديوان أحمد شافعي: "77" الصادر عن الكتب خان 2017 والذي يحقق صورة مُثلى لفكرة الكتاب الشعري برغم كون قصائده تخرج من سكك وطرق متباينة، إلا أن طريقة الكتابة المتقشفة التي بلا تزيد ولا استجابة فيها لسلطان الحكي ولا للتداعي، وكون القصائد بلا عناوين تخلق لها حياةً مستقلة بل مجرد أرقام أو فصول تتفاعل معاً لتصنع سيرةً تخييلية لرحلة وعي وروح وجسد كائن هو أحمد شافعي. هذا الأمران يجعلان الديوان وحدة واحدة منتظمة ومتشظية في نفس الآن وهو الأمر الذي يكافئ الحياة ذاتها.
لا ينتظر القارئ وقتاً طويلاً حتى يكتشف أن الرقم "77" هو عام ميلاد الشاعر لتتوازى الرحلة العمرية ورحلة الجسد مع رحلة الوعي وأسئلته واقتراحاته الجمالية – التي يستمتع بنقضها أحياناً - وألعابه مع الأشياء والكائنات. 

فوق سطح مرآة حمام شقة صغيرة يتكاثر بخار الماء دوماً وبلا إنقطاع ثم يقف الشاعر وينظر إليه ملياً ولا يمسحه بل يطالب ملامحه أن تتحرك وتصارع البخار وتبتهل للهواء أن يتسرب بهدوء ومكر

نتقابل في الديوان مع أحمد شافعي عندما يجرح قشرة العالم ويخدش براءته المزعومة بهدوءٍ ماكر ليقتنص جلداً ولحماً لا يشبه ولا ينتمي إلا للكائن المسمى أحمد شافعي. لا يهتم شاعرنا بأشكال الانتماء والقرب أو بمسافات الخروج عن القطيع، لا يحفل أصلاً بكون هذه السطور تنتمي للصور الذهنية القارة عن الكتابة الشعرية أم لا، إنه يسأل فقط ويعيد فك وتركيب تفاصيله الخاصة الصغيرة ولحظاته التي قد لا تنتج الشعر بشكل مباشر أولا تصلح لمداعبة المناطق التي تعمل على تفجير الدهشة، لكنها وعلى الرغم من ذلك، ومن أن الشاعر يستخدم الشعر فقط كمرآة يحاصر فيها ذاته الهاربة ويُصلح بالحروف الشقوق التي في هذه المرآة، فإن هذه اللحظات تنجح تماماً في شدك وأسرك وجذبك لأتونها الماكر الذي يتزيا بالثلج لتنصرف أو لتتورط ولا فرق كبيراً. "يبدو أن أسئلة الكائن ستظل حرَّى دائماً، ديوانه السابق كان يحمل عنوان "أحمد شافعي وقصائد أخرى". 
في ديوانه الجديد يتخفف الشاعر من المجازات الثقيلة ويصنع صوراً غريبة من فرط اعتياديتها، وكونها تفاجئك بمناطق داخلك كانت مهملةً ومنسية ثم انتفَضَت فجأةً وأخذت تغترف من نهر حياة ذلك الذي قد يشبهك فعلاً لكنه في أحواله وتجلياته الخاصة فلا تملك إلا أن تهز رأسك وتقول أنا هذا - أنا هنا ثم تقول أنا لستُ هذا - أنا لستُ هنا، بنفس القدر:
"من العدم، من العدم تقريباً، يقع في نفس ساحرٍ أنهُ أرنبٌ يحتضر وأنهُ طوال أعوامه التي شارفت على الأربعين لم يكن غير أرنب يحتضر" (ص 113). 
نهايات القصائد تبتعد بسلاسة عن المفارقة المصنوعة، إنها طبيعية وهادئة ومتسقة مع رحلة القصيدة مما يجعل القصائد أحياناً تقترب من التأمل الهادئ والحكمة الشخصية الخاصة، والسؤال الذي يلقيه ذلك الجد العجوز من النافذة وهو يحشو غليونه ثم لا ينتظر إجابةً ما: 
"هكذا هم الغرقى الحقيقيون/ لا نعرف لهم حكاية/ إلا التي نخمنها،/ حتى أننا لو شربنا كأسيْن إضافييْن/ لعرفنا في حكاياتنا عنهم/ حكاياتنا عنا" (ص117). 
يمكن أن نقول أن هذه القصائد شعر شفاف ومُقطَّر، خام يصلح لأن تُخرج منه حيوات كثيرة متحققة أو مهدرة لكنك لا تقع دائماً في هذا الشَرَك حيث إن الحياة التي يقدمها ملغومة ومركبة وليست سهلة ومتاحةً أبداً، لها مداخل وعتبات وسلالم وردهات خلف سطحها وأمام بابها الذي سيذكرك بعد أن تكون قد خُدعت وقلت إنه لا غربة بينك وبين المكان بأن هنا منزل أحمد شافعي، هنا وعي هذا الكائن وحسيته الفائقه في تعامله مع الأشياء بالضبط كما مع البشر وسخونة مشاعره وبرودة وثقل وخفة أيامه، وليست حياتك أنت أبداً:  

Literary criticism
لا ثمة طمأنينة في الأفق 

"غيري يلعب، غيري يكتب بالمقص والجريدة، أو يغرق روحه في المعجم، غيري يسترق السمع إلى العابرين أو يتسول من أحلامه دماً لقصائده، أما أنا، أنا أضع لساني في فمكِ لأطول وقت ممكن، ثم أكون أول المندهشين مما يقوله بعدها أو يصمته" (ص 104). 
هل كان الشاعر ينتوي ويقصد القطيعة مع المعتاد والمغامرة والمغايرة أو حتى جذبك في البداية للتشابهات الخادعة بين حياتك وحياته، ثم وضعك بقسوة أمام المرآة لتُفاجأ بملامحه هو وليست ملامحك أنت؟ لا أظن ولا أعتقد، إنه فقط يطرح أسئلته عن الكون والوجود والكتابة والحب والجنس .. الخ، ويتحاور مع تفاصيله بلا انتظار لإجابات لأنه ببساطة سيشك فيها بسرعة ويقلب اليقين الذي فيها لتتحول إلى أسئلة مرة أخرى وهكذا بلا نهاية. 
إنه يترك خانات كثيرة فارغة بقصد أو بالأحرى بعدم اكتراث، لا ثمة طمأنينة في الأفق والهدوء والسكينة محض لوحة تشكيلية وليست حياةً حقيقية أبداً:
"ربما لا يكون السؤال جليلاً جلال لماذا بل ملهوفاً كمتى أو تافهاً مثل أين. ربما لستُ جاهلاً بالسؤال بل خائفٌ وحسب أن أعرفه، ربما لأنني أعلم أن هذه قد لا تكون الإجابة الصحيحة بل الإجابة المتاحة" (ص111-112). 
فوق سطح مرآة حمام شقة صغيرة يتكاثر بخار الماء دوماً وبلا إنقطاع ثم يقف الشاعر وينظر إليه ملياً ولا يمسحه بل يطالب ملامحه أن تتحرك وتصارع البخار وتبتهل للهواء أن يتسرب بهدوء ومكر ليدخل بين طيات البخار ويفتتها لتعيشَ هي وتتنفس إن أرادت، عندها ينظر الشاعر لملامحه بابتسامة المنتصر على الزحام والضجيج لحساب الوحدة والصفاء الذي يحبه رغم أنه يقول عنه دائماً إنه المستحيل بذاته.