"شاي بالنعناع" إثارة الأسئلة والمسكوت عنه

الخطاب السردي في قصص وليد بن أحمد يقوم على التتابع وانتهاء النص بخاتمة مفارقة.
الألفاظ لها تاريخ وأثر وخبرات وتجارب، وليست مجرد رموز وإنما ترتبط بإرث المقدس والمدنس
العلاقة بين المقدس والمدنس يفرضها الوجود الاجتماعي الثقافي

بقلم: هيام الفرشيشي
"شاي بالنعناع" قصص قصيرة جدا لوليد بن أحمد ، صادرة عن دار مومنت للنشر 2017، إشراف حكمت الحاج. وهي قصص قصيرة جدا (50 قصة) وردت في 60 صفحة. جاءت تصديرات الكتاب على شكل قصص قصيرة جدا الأولى لبليز باسكال "كنت لأكتب رسالة اقصر، لكنه لم يكن هناك متسع من الوقت" والثانية لارنست همنغوي  "للبيع حذاء طفل، لم يلبس قط".
جاء العنوان باللون الاحمر على غلاف بني في أرض مشققة تبدو متكلسة تنبت بين شقوقها نبتة يتيمة خضراء، فالعنوان يشير الى لون المحظور، عنوان المغامرة في أرض غير خصبة ولكن في إحدى شقوقها ثمة بقايا تربة خصبة تحتاج إلى جهد وحفر.
إنه لون الاستقرار والثبات يمتزج فيه الظاهر بالباطن، وهو لون النظام والاستقرار والانتماء. ولكنه يغطي طبقة أخرى قادرة على إعادة رسم المشهد بغطاء أخضر.
الخطاب السردي في هذه القصص يقوم على التتابع وانتهاء النص بخاتمة مفارقة، عبر جمل فعلية لا تعكس قلقا بقدر ما تصور الأشياء في الواقع بحثا عن واقع مغاير يكتسي دلالات عميقة، تنطوي على ثقل مرجع اجتماعي ثقافي. ويبدو أن الهدف من كتابة هذه الأقاصيص إثارة الأسئلة والمسكوت عنه. فمن عناوين قصص المجموعة نجد "ضد الزمن"، "حبوب منع الحلم"، "زهرة المزابل"، "عراة في الظلام"، "تقص"، "تلبس"، "صدمة"، وتبدأ المجموعة بقصة "ما وراء الكثبان" وتنتهي بقصة "شاي بالنعناع" عنوان الكتاب.
صدمة
"وطئ أرض تونس الجميلة ممنيا نفسه برحلة رائقة. على لافتة كبيرة قبالة المطار، قرأ جملة مبهمة "شرجي بدينار"، تعوذ، بصق، وعاد أدراجه، يبحث عن طائرة العودة. هاتفني بعد يومين من القاهرة وألح علي بالهجرة، من تونس الفاسقة".
الألفاظ حسب معانيها المتداولة وقع عليها تغيير وصارت تحمل معنى آخر وتحيل إلى مدلول مختلف، وكأنها تنزع الغطاء عن عدم التلفظ بها وإدراجها في سياق آخر، لفظ غطاه معنى جديدا أو طريقة نطق جديدة لا تحيل إلى المعنى المحدد في اللغة. الألفاظ هي محل ازدراء اجتماعي وديني "بصق وتعوذ"، بل تقترن بالفسوق وهو إظهار الدعارة والفساد .
اختلاف في فهم الألفاظ وتأويلها، بعض الألفاظ يتغير معناها بين الشعوب، وانحياز كل طرف إلى التفسير المعجمي للفظ. فهي مرتبطة بعقيدة دينية أو معجم اجتماعي مرذول، فالألفاظ لها تاريخ وأثر وخبرات وتجارب، وليست مجرد رموز وإنما ترتبط بإرث المقدس والمدنس، داخل السياق اللغوي والثقافي والاجتماعي.


إن الإنسان هو المنتمي إلى منظومة المجتمع، إلا أن هذه المنظومة بدورها تخضع إلى فوارق وتقسيمات وطبقية ونخبوية والشعور بأفضلية لغة أو عرق أو دين أو حضارة أو جنس أو لون أو قوة اقتصادية وسياسية أو طبقة اجتماعية.
 

 تقص
"يا أيها الخطاؤون
والخارجون من النور الى الظلمات
الا أيها التائبون بلا نزيف
أليس للحقيقة ثمن ومهور
فاصدحوا بها عارية صلدة سماء
قدمت عمري قربانا
لتنكسر على عتباتها قناع وهمي
ألا عجلوا
فقد بلغ حرفي أسباب السماء"
زهرة المزابل
"منذ صدحت أمي بالحقيقة صرت أتردد كثيرا على الجادة الطويلة المظلمة، سوى من فوانيس فاترة يتيمة مثلي، كل مساء تجوب السيارات الشارع العطن، ويزدحم الرصيف ثم يبدأ العرض، كل نوافذ العربات الأمامية مفتوحة على آخرها وأصحابها يتخفون خلف نظرات داكنة وينهشون تفاصيل بالية من أجساد بلا روح، لا تعقد صفقات كثيرة، لكن بعضا من تلك الأجساد تبتلعها السيارات إلى حيث يختلي الذئب بالوليمة، لا أظنني ابن أحد الذئاب، أحبت أمي أبي حتما فقد وثقت به، لا تثق المومسات عادة في أي كان".
الحديث عن أجساد بلا روح مغلف بألفاظ وصفات تصب في معجم المدنس "جادة طويلة مظلمة، فوانيس فاترة يتيمة، الشارع العطن، ينهشون تفاصيل بالية، يختلي الذئب بالوليمة".
  المومس لا تمارس الجنس بموجب اللذة والسعادة مع الغرباء والزبائن، لأنها تجردت من العاطفة، بل يتماثل المدنس مع الحرام وغياب العاطفة والمقدس مع الحلال ومع الحب، فحين يقدم الجسد كوليمة للذئب يفقد وجوده الروحي ويصبح مجرد شيء بدون إحساس وعرضة للنهش والاغتصاب، عن طريق الحب يسترجع رغبته وإرادته وأحاسيسه، فالمدنس يقترن بالدعارة من أجل الحصول على المال.
قوانين زارداشت تعاقب المرأة عقابا شديدا إذا اخطات.
 يقول سقراط "إن المرأة أكبر منشيء للأزمة والانهيار في العالم".
في الجاهلية دفن البنات من المكرمات.
تلبس
 "ضبطني جارنا في مكان موبوء، حدجني بنظرة نارية مهددا: سأخبر أباك أيها القذر. رددت بعيون تملؤها براءة الخمس عشرة ربيعا: سأخبر زوجتك سيدي".
لم يسم المكان الموبوء بالماخور أو بيت الدعارة، فهو مكان شيطاني غريزي، أمكنة تثير الخشوع والرهبة والشرف والاحترام وأخرى يقع وصفها دون تسميتها مكان لغياب الشرف والاحتقار والعنف على الجسد.
  إن العلاقة بين المقدس والمدنس يفرضها الوجود الاجتماعي الثقافي، ويستدعي المدركات العقلية التي تنتج أنساقها لتنظيم حياة الناس وملء الذوات بوعاء روحي له منظومته وأنساقه وقيمه، من ذلك أنها تحمي الجسد من الأماكن المتعفنة الخطيرة مثل الشارع والمواخير والملاهي والأمكنة المظلمة والممارسات المتعفنة، وتقسم اللغة إلى لغة طاهرة وأخرى فاحشة. 
وهي بهذا إملاء ديني وأخلاقي ملزم، فهناك طرق تجنبك الدنس وما يتولد عنه من عنف واستغلال، وهناك طرق هامشية هي أروقة للتعذيب الجسدي ووصم علامات العقاب. أما أن تصل إلى درجة الإنسان الفاضل الذي لا يقوى أحد على أن يحدث له الأذى أو الإنسان المنحرف الذي تتقلص مشاعر الفظاعة تجاهه وتشرع كل أنواع العنف، فيتحدد وجود الإنسان بالاقتراب والحميمية والهيبة أو الانفلات والانحراف والإذلال والاحتقار، لأنه جرد من مرتبة الإنسان واحتل مرتبة الحيوان، طالما أنه يكتسب وعيه وإدراكه من منظومة قيم اجتماعية ودينية جاهزة. 
إن الإنسان هو المنتمي إلى منظومة المجتمع، إلا أن هذه المنظومة بدورها تخضع إلى فوارق وتقسيمات وطبقية ونخبوية والشعور بأفضلية لغة أو عرق أو دين أو حضارة أو جنس أو لون أو قوة اقتصادية وسياسية أو طبقة اجتماعية. وبذلك يتحول المقدس إلى مصدر القوة المادية تحتكر الجانب الروحي، تبرره لنفسها وتقصيه من غيرها، فالعلاقات الجنسية والتعري أشياء محرمة في الأوساط الفقيرة لأنها تعرض صاحبة الجسد للعنف والاستغلال واكتساب صفات العهر، وهي مشاعة في الأوساط الثرية وفي أوساط النخب الثقافية والعلمية والنسوية، فهي حرية واستقلالية طالما أن هناك قوة تحميها. 
وحقوق الإنسان المنتهكة في البلدان الضعيفة تفرض العقاب بينما تنتهك الدول الكبرى تلك الحقوق بأسلحتها المبيدة للإنسانية، وبذلك يمارس منظومة إقصاء وتمييز .
وبذلك مثل اللاوعي  اللامفكر فيه، لا يوجد كائن ثقافي مختلف. 
 المقدس يعادل القوة، من فكر ديني متعال مشكوك في كائناته يؤيد استمرارية النظام الاجتماعي، إلى مقدس دنيوي، وتجريد المقدس من البعد الديني يعني استحواذه على أدوات السلطة المادية، المقدس مرتبط باللجوء إلى إيجاد ملجأ للقوة والتموقع الاجتماعي والسياسي.