شعرية الشر في رواية "على قبوركم"

بوريس فيان كتب روايته بلغة الشر لتنقل واقعا تطغى عليه فكرة الانتقام كغاية تبررها الوسيلة.
جورج باتاي في كتابه "الأدب والشر" يتناول مدى أهمية ارتباط الأدب بالشر وإلى أي حد تمكن الأدباء من خوض غمار الممنوع الخادش للحياء والمنافي للأخلاق
لغة فاحشة تضرب بكل ما هو سائد فتختفي الشعرية ليأخذ مكانها معجم فج تطغى عليه الإباحية

"الأدب ليس بريئا، ما أن يبتعد عن الشر حتى يصبح مملا". هكذا كتب جورج باتاي في كتابه الأدب والشر والمتمثل في مجموعة من المقالات والدراسات حول بعض الكتاب مثل أبولينير، ساد، جويس وميلر. تناول في كتابه مدى أهمية ارتباط الأدب بالشر وإلى أي حد تمكن هؤلاء الأدباء من خوض غمار الممنوع الخادش للحياء والمنافي للأخلاق والمسجل تحت بند حماية الآداب العامة ضد ما هو فاحش وجنسي.
في كتابه استطاع باتاي أن يرمي عرض الحائط كل هذه الممنوعات حيث أشاد بكتاب وأدباء منعت الرقابة أعمالهم فاضطروا إلي طباعة مؤلفاتهم سرا، وعلينا هنا أن نتساءل هل يمكننا إذن القول بأن الإصدارات السرية لهذه المؤلفات ستحمي بشكل ما المجتمع من الانزلاق نحو ما يسمى بأدب الرذيلة؟ ألا يعلم من سن هذه القوانين أن كل ما هو ممنوع مرغوب خاصة إذا تناول موضوع الجنس والجسد، وأن ما تمت إدانته في فترة ما أصبح الآن أدبا.   
في سنة 1946 صدرت للكاتب الفرنسي بوريس فيان رواية بعنوان "سوف أبصق على قبوركم"، رواية كتبت بلغة الشر لتنقل واقعا تطغى عليه فكرة الانتقام كغاية تبررها الوسيلة. تم منع هذه الرواية عند صدورها لكن في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت النظم الأخلاقية فأصبحت أكثر ليونة وانفتاحا فلم يعد من الضروري الاختباء وراء أسماء مستعارة أو النشر بشكل سري، فتحولت إباحية الأمس إلى أدب اليوم. وقد خاض وليد أحمد الفرشيشي غمار ترجمة هذه الرواية لدار مسكيلياني تحت عنوان "على قبوركم".
يقول فرويد "الإنسان كائن يختزن قدرا كبيرا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية. فكل إنسان ميال الى استغلال الآخر والتفوق عليه والاعتداء عليه، لإشباع حاجته العضوية والنفسية فالإنسان مدفوع عضويا إلى إشباع حاجته من الجنس." 
لم يحد بوريس فيان عن مقولة فرويد، فبنى نصه السردي على ثلاث؛ الجنس، العنصرية والشر.

أعمال بوريس فيان ظلت منبوذة لسنوات طويلة وذلك بسبب غرابتها من ناحية المضمون والشكل الذي اتخذته

الجنس في خدمة الأدب 
منذ البداية تصدمك اللغة التي استعملها بوريس فيان، لغة فاحشة تضرب بكل ما هو سائد فتختفي تلك الشعرية ليأخذ مكانها معجم فج تطغى عليه الإباحية. اختار اندرسون بطل الرواية أن ينتقل للعيش في بلدة لا يعرفه فيها أحد وذلك لسبب اختار الكاتب أن يخفيه إلى حين، خلال الأسابيع الأولى له  تعرف إلى مجموعة من الشباب والشابات انطلق معهم في مغامراتهم وعربدتهم اليومية. 
تطورت العلاقة بين البطل وإحدى الفتيات الشيء الذي غيّر نمط الكتابة فاتخذت منحى جديد ألا وهو الإيغال في وصف المشاهد الحسية التي تجمع البطل بالفتيات اللاتي يلتقي بهن. ومع تواتر الأحداث تساقطت الشخصيات الثانوية من حوله لتترك المكان للأختين اسكيث ومعهما تبدأ مغامرة الرغبة والجسد لتبلغ أقساها عند النهاية. لم تكن المشاهد الجنسية مسقطة في الرواية بل كانت وسيلة ليبرر بها أفعال البطل في الأخير.  
العنصرية: لعنة اللون الأسود 
كيف يمكن أن تحمل جينات زنجي وأنت بلون أشقر؟ لم تكن ملامح أندرسون الزنجية واضحة عليه فقد كان أشقر بشعر ذهبي شيء لا يمكن أن يحدث لزنجي إلا إذا لعب القدر لعبته ساخرا من اللون الأسود في السلسلة الجينية للبطل. مكن هذا الخلل الجيني لي اندرسون من الاندماج في مجتمع البيض بسهولة "فبفضل الشعر الأشقر، وتلك البشرة البيضاء الوردية، كنت بمأمن".
استغل اندرسون هذه الهبة ليتمكن من الوصول إلى غايته وهي الاقتراب من الاخوات اسكيث وإقامة علاقة مع جين في انتظار الإيقاع بالأخت الصغرى، هنا يتساءل القارئ عن سبب هذا الإصرار على التواصل مع هذه العائلة الغنية، لا يتم الكشف عن السبب الرئيسي إلا في نهاية الرواية أين واجهت لو اسكيث اندرسون بحقيقة أنها تعلم بأصوله الزنجية وأن صديقهما ديكستر قد باح لها بذلك. هكذا يسقط القناع الأشقر الذي كان يختبئ وراءه البطل تاركا المجال لبروز الحقد والازدراء المتبادل من كلى الطرفين. 

French novel
ظلت أعمال بوريس فيان منبوذة لسنوات طويلة

الشر: وسيلة تبرر غاية المنتقم
من أين يأتي الشر؟ من الغرائز أو من اللاوعي؟ أو هو فعل ارادي بدافع انتقامي؟
حتى نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نبدأ الرواية من النهاية، ففي النهاية فقط يكشف البطل عن سر العلاقة التي سعى إلى إقامتها مع الأخوات اسكيث. طوال الرواية ومنذ البداية كان لي يتحدث باختصار شديد عن "الطفل"، من هو هذا الطفل وما علاقة لي به؟ وفي الأخير اعترف لجين وهو بصدد  قتلها أن ذلك الطفل هو أخوه إذ قتل لأنه وقع في غرام فتاة ليست من بنات جنسه.
كان تيار الشر تصاعديا في الرواية، فمنذ البداية كان الإحساس بالعنصرية طاغيا، مما جعل لي يقف في صف الزنوج مدافعا عنهم مشيدا أحيانا بأفعالهم، تتضاعف أفعال الشر عندما يقوم لي بمضاجعة جين وهي ثملة تماما فكان الأمر بشعا لدرجة أنه أتاها أمام صديقتهما المشتركة في مشهد سادي وفاحش. 
أوغل بوريس فيان في تصوير المشاهد السادية عند بلوغه نهاية الرواية، فمشاهد القتل التي قام بها البطل لم تخلُ من الفظاعة فقد اقترن فعل القتل مع فعل الاغتصاب، فأي متعة يجدها قاتل في اغتصاب جثة فارقت الحياة للتو، أن يمزق جسدها بأسنانه ويشرب من دمها ويستمتع بصراخها فقط من أجل الانتقام لأخيه. بعد فراره ومحاصرة الشرطة لمخبئه يتم قتله وشنقه من قبل الأهالي لا لشيء إلا لأنه زنجي.
ظلت أعمال بوريس فيان منبوذة لسنوات طويلة وذلك بسبب غرابتها من ناحية المضمون والشكل الذي اتخذته. ففي روايته هذه تناول موضوعين في غاية الحساسية، الأول متمثلا في علاقة الجسد بالجسد والمشاهد الموحشة والسادية الطاغية. وثانيا العنصرية والتفرقة بين البيض والسود لصالح البيض. ومن هنا نرى المغزى الإنساني الذي تناوله فيان في هذا النص فليس من السهل ان ينقل لنا كاتب أبيض إحساس شخص أسود عانى من التفرقة والتمييز. 
إذن يمكننا أن نطرح سؤالا حول مدى نجاعة الكتّاب البيض في نقل مشاكل ذوي البشرة السوداء، خاصة إذا لم يكن هناك احتكاك مباشر بهم أو ببيئتهم؟