شكري المبخوت يصف لحظة القراءة بأنها اللحظة العجيبة

الروائي التونسي يوضح أن "باغندا" كانت تفصيلا في رواية "الطلياني" ثم خرجت منها لتستقلّ بعالمها الخاصّ.
الرواية إنشاء لحيّز محاورة الآخر والذات
خرجنا من فكرة المركز والهامش في الثقافة العربيّة

حوار أجراه: كه يلان محمد

العمل الإبداعي الذي يكونُ نتيجةً للتراكم المعرفي والدراية بتفاصيل أساليب الصنعة مدعماً بموهبة كبيرة لا يحتاج إلى كثير من الوقت ليتلقفه الجمهور ويحتفي به، وهذا ما وجدناه حينما أصدر الكاتب والأكاديمي التونسي شكري المبخوت باكورة أعماله الروائية "الطلياني" التي حصلت على جائزة البوكر العربية 2015. 
يُذكر أن صاحب "باغندا" ليس اسماً مجهولاً بالنسبة للقراء الذين عرفوه ناقداً بارعاً وأكاديمياً مطلعاً على أحدث المدارس النقدية والإتجاهات الأدبية وكان لنا حوار مع مؤلف "أحفاد سارق النار" ما انفك يريد بلورة مفاهيم جديدة لقراءة المعطيات الأدبية الأمر الذي يكون بموازاة إشتغالاته الإبداعية.
ويوضح المبخوت أن "باغندا" كانت تفصيلا في رواية "الطلياني" ثم خرجت منها لتستقلّ بعالمها الخاصّ. وقال: المسألة عندي هي تناسل الحكاية من الحكاية بضرب من التداعي. لا تنس أنّ الطلياني كانت راويتي الأولى. ومن يدخل عالم السرد الفاتن لا يجد له سبيلا إلى الخلاص من أسره. 
وأضاف: ما يهمّ في لحظة الكتابة هو نحت المصائر وتتبع الشخصيّات وتردّداتها وتحوّلاتها وتأثيث العالم المتخيّل الذي نصنعه. أمّا الأفكار والمواضيع والمسائل المختلفة التي تظهر في ثنايا السرد فتعود إلى الرؤية التي تقود الروائيّ. ما كان يعنيني عند كتابة باغندا هو اقتفاء أثر التحوّلات في الأفراد ونفسيّاتهم وفي المجتمع بأنساقه المتراكبة. ففي سوسيولوجيا كرة القدم التي اشتغلت عليها الرواية كنت أحلّل الانتقال من عالم الهواية في هذه اللعبة، وهي عندي استعارة كبرى عن المجتمع، إلى عالم الاحتراف حيث يبرز سلطان رأس المال وعلاقاته البذيئة مع السياسة وآثاره الأخلاقيّة والقيميّة والاجتماعيّة. 

هذا هاجسي وكان كذلك مطلبي في "الطلياني" هو ما ينتج عن مرحلة انتقال وتحوّر من عهد سياسيّ إلى آخر. الرواية عندي هي فنّ معاينة ضروب التحوّلات لاكتشاف المعنى القابع وراء فوضى الوقائع. والسرد هو هذا تحديدا لذلك نتحدّث عن الحبكة بأبسط معانيها: وضع انطلاق فجملة من التحوّلات فوضع ختاميّ. 
هل كنت أفكّر في سؤال  لماذا سقط النظام في تونس؟ ربّما. ولكنّني أعتقد أنّ كشف لعبة السلطة في مختلف تجلّياتها وعمليّة تحويل كل شيء إلى قيمة تبادليّة في السوق هي الإطار الأوسع الذي تتنزّل فيه باغندا.     
ويرى الروائي التونسي أن التجريب كما مورس في جلّ ما يعدّ رواية تجريبيّة عندنا، نحن العرب، يحتاج إلى وقفة تأمّل نقديّ. إذا سلّمنا بانّ التجريب اشتغال على الأشكال وأنساق السرد وأساليبه فإنّ الاكتفاء بذلك يقتل جانبا مهمّا من الرواية هو الحكي وصنع الشخصيّات الروائيّة الفاتنة. 
ويقول: اختياراتي الفنيّة تقوم على الإيمان بأنّ  الرواية في أصلها حبكة أوّلا وقبل كلّ شيء. أي اشتغال على عالم مليء بالتناقضات والصراعات والتردّدات هو الذي يمنح النصّ حيويّته وتدفّقه ويجلو الدلالة. لا أعتقد كما يذهب إلى ذلك التجريبيّون وكثير من النقّاد رأى أنّ للأشكال معنى. هذا عندي وهم صنعه الشكلانيّون وصدّقناه. ولا أظنّ انّ الأشكال مقصد في الكتابة الروائيّة رغم إصرار الكثيرين على أنّ الكتابة الروائيّة استكشاف لممكنات في الصياغة والصناعة. الأمر في رأيي أخطر من ذلك. فالتفكير في الأشكال على أهميته لا يصنع رواية بل يصنع تفكيرا في الرواية أي هو من باب الصنعة المحض. وأكبر ظنّي أنّ الرواية تحتاج إلى أن تخفي وجه الصنعة فيها لتلاعب القارئ وتمارس لعبة الشكل في حدّ ذاتها ولكن ضمن رؤية لا تقضي على الحكاية.

صحيح قد تعجب الكتابة التجريبيّة النقّاد والمدرّسين لأنهم يجدون فيها مادّة لنظريّاتهم وللتدريس. ولكنّ القرّاء أهمّ من صنف صغير منهم هم الأكاديميّون. الرواية في رأيي فنّ شعبيّ. غير أنّه إذا تثبتنا في "باغندا" مثلا فإنّنا نجد فيها جوانب من التجريب الشكليّ الذي لا يقضي على الحكاية. فالتجريب غير غائب عن هذه الرواية لمن أراد أن يبحث في صيغتها والتشكيلات الخطابيّة التي تكوّنها. ولا أتوسّع حتى لا انقلب شارحا لنصّي. 
وفي شأن السيرة الفكرية والسيرة الذاتية يرى المبخوت أن السيرة الفكريّة لا يكمن في ما ترويه من تجارب "عقليّة" "ذهنيّة" إن شئت. الأساسيّ في تقديري أنّها على نحو ما تخييل لعالم الأفكار إن صحّ التعبير وإيقاع للحبكة فيه. لذلك هي تنتمي إلى عالم الكتابة الأدبيّة ونقوم بتجنيسها على أنّها ضرب من السيرة الذاتيّة التي تتراوح بين المظهر الإحاليّ فيها والمظهر التخييليّ.
ولكنّنا نكتشف في السير الفكريّة أنّنا أمام بناء هوّيّات سرديّة تستكشف الروابط العميقة التي تشدّ ماضي الشخصيّة إلى حاضرها. وهي هوّيّة تقوم على أساس أسطوريّ مهمّ تعبّر عنه، كما أوضحنا في الكتاب، مكوّنات سارق النار برومثيوس في الأساطير اليونانيّة المؤسّسة لمعنى المعرفة الإنسانيّة وصياغتها الحديثة مع فاوست. إنّها رواية أخرى لوجه من مغامرة الإنسان المتمرّد المتبصّر بذاته وبالآخر المظفّر في تحقيق مشروع سيرذاتي فرديّ والمؤمن بأفكار التقدّم والترقّي والحريّة أي مختلف القيم التي تؤسّس للإنسان الحديث. 
ما يعنيني أكثر هو أنّ هذه السير تفتح فضاءات للمحاورة مع القارئ من خلال مسارات فرديّة وقصص نجاح شخصيّة.
ويرى شكري المبخوت أن ازدهار الرواية الآن ليس له علاقة بالطابع الاستهلاكيّ لعصرنا. وأوضح أن ثمّة شيئا في الرواية، كلّ رواية مهما كان شكلها، يشدّ القارئ إليها. هذا "الشيء" هو، على الأرجح، طابعها الذي يسمح للقارئ أن يتفاعل مع الآخر ضروبا من التفاعل. فمجال الرواية وعوالمها ممتدّان  كالحياة واسعين كالخيال الفرديّ والجماعيّ. لذلك تقدّم الروايات جمهرة من ذوات إنسانيّة تشبهنا وتختلف عنّا، نلتقيها فنتماهى معها أو نتباعد عنها، نراها أو ننكرها. وفي هذه الحركة تحديدا تنفتح أمامنا سبل معرفة أنفسنا والآخر والمجتمع، نعرف عزلتنا وحلمنا ووجعنا وتوقنا. الرواية إنشاء لحيّز للمحاورة، محاورة الاخر والذات في تلك اللحظة العجيبة، لحظة القراءة.  

ثمّة تنوّع في الرواية العربيّة
المتعة الفنّيّة 

ثمّة معرفة تقدّمها الرواية لا يجدها القارئ في غيرها. هذه المعرفة الروائيّة هي التي يبحث عنها القارئ الذي وقع في شرك مطالعة الرواية. وعلينا ألا ّ نكتفي بردّ الأمر إلى مجرّد المتعة الفنّيّة التي تتوفّر على نحو أيسر من جهد القراءة  في غير الرواية مثل السينما أو الموسيقى أو الفنون التشكيليّة او المسرح. 
أما عن الحراك النقدي فيقول المبخوت: لا أعرف إن كان الحراك النقديّ في صلته بالحركة الإبداعيّة قد أوجد خصوصيّة ما في ما يكتب في تونس والمجال المغاربيّ. ما أنا متأكّد منه أنّ النقد تطوّر عندنا في فترة مّا بفضل النقد الأكاديميّ أساسا لارتباطه بحركة النقد الجديد في فرنسا. وهو نقد كان يسعى في بعض اتجاهاته إلى نوع من المقاربة التي تقصد أن تكون عقلانيّة علميّة. لكنّ هذا كلّه تمّ تجاوزه عالميّا بسبب تطوّر علوم لغويّة أخرى فتحت برادغمات جديدة خصوصا في النقد الأنقلوسكسوني. 
وإذا أردنا أن نبحث عن علّة لخصوصيّة ما يكتب في الفضاء المغاربي فهي لا تخرج في ظنّي عن العوامل التي تفسّر خصوصيّة الكتابة في مختلف روافد الرواية العربيّة. ثمّة تنوّع في الرواية العربيّة يبدو لي عائدا إلى تنوّع المجتمعات العربيّة واختلافات كثيرة بيّنة في النفسيّات والعادات والتصوّرات. هذه المحلّيّة الثريّة وهذه اللغات السرديّة المختلفة هي التي تكسب الرواية العربيّة تنوّعها وخصوصيّاتها ومنها الرواية المغاربيّة والتونسيّة. وبالفعل أعتقد أنّنا خرجنا من فكرة المركز والهامش في الثقافة العربيّة إذ صارت المراكز متعدّدة لأنّ كتاب مختلف هذه الثقافات التي تكوّن ما نسمّيه الثقافة العربيّة قد أخذوا على عاتقهم مهمّة حكاية سرديّاتهم المتنوّعة.