شكري مصطفى: الإسلام الغاضب لجماعة التكفير والهجرة

شكري حرّم الصلاة في المساجد وتقليد السلف لأنّها لم تُبن على اِلتقوى كذلك حرم صلاة الجمعة لأن من شروطها التمكّن.

بقلم: عبيد خليفي

ولد شكري مصطفى سنة 1942، وفي شبابه اِلتحق بجماعة الإخوان المسلمين ليعيش معهم محنة 1965، ولم يغادر السجن إلا بعد وفاة جمال عبد النّاصر مُثقّلا بأفكار سيّد قطب ناقما على نظام الحكم الذي نكّل بهم سجنا وتعذيبا وحشيّا، ويبدو أنّ تجربة السجن قد صقلت مواهب العديد من الإخوان ليخرجوا في قطيعة مع حركة الإخوان التي مازالت تعتقد بإمكانية التغيير عبر العمل الدّعوي والعمل السياسي، ويبدو أنّ مشاعر النقمة قد جعلت شكري مصطفى ينأى عن تنظيم الإخوان ليؤسّس “جماعة المسلمين” أو “جماعة الدّعوة والهجرة” أواخر سنة 1973، وأطلقت عليها الأجهزة الأمنيّة لاحقا تسمية “جماعة التكفير والهجرة”، ولم يكن شكري مصطفى صاحب فكر مؤسّس، ولكنّه سار مسار صالح سريّة في تشكيل تنظيمه مستفيدا من تجربته في السجن على المستوى العقائدي حين اِستوعب نظريّة سيّد قطب وأبي الأعلى المودودي من جهة، وعلى المستوى التنظيمي حين اِستقطب شباب الإخوان الغاضبين وجعلهم أمراء المناطق والجهات المصريّة من جهة أخرى، وأمر أتباعه بالاِنتقال لكور الجبال والمغاوير بعد بيع ممتلكاتهم في ما يسمّيه شرط الهجرة قبل الجهاد، وأخذت الجماعات تتدرّب في معسكرات عقائديّة وعسكرية، وهذه الهجرة يبدو أنّها كانت تطويرا لفكرة “العزلة والاِنفصال عن المجتمع الجاهلي” التي نادى بها سيّد قطب.

أدرك مصطفى شكري أنّه يجب أن يتحرّك بسرعة أكبر، لأنه صار مكشوفا للسلطات الأمنية، فسارع إلى اِستقطاب عـــدد مهم من الشباب المتحمّس في مختلف المحافظات المصريّة، وقد اِختار مديريّة التحرير الفلاحية التي أنشأها جمال عبد النّاصر لتكون مركزا لتجميع أعضاء الجماعة، وقام مصطفى شكري بشراء الأراضي وبناء المساكن من الطوب، وزوّج الشباب، وأقام مجتمعا متماسكا منغلقا على محيطه، ويبدو أنّ السلطة السياسية في مصر كانت مشغولة بنتائج حرب أكتوبر من جهة، وتراخت عن الإسلاميين لتقاوم مدّ الشيوعيين من ناحية أخرى، وهـو ما جـعل جماعة “الدعـوة والهـجرة” تمتدّ في كل المحافظات المصريّة، خاصة في الصعيد وفي الجامعات لتنافس طلبة الإخوان، وصار مصطفى شكري يفكّر في البحث عن الاِمتداد خارج مصر.

حرّم مصطفى شكري الصلاة في المساجد مثلما حرّم تقليد السلف، لأنّها مساجد لم تُبن على اِلتقوى، وزاد في تحريمه لصلاة الجمعة، لأن من شروطها التمكّن، فالنبي محمّد لم يُصلّها في مكّة، ولكنه أقامها بعد التمكّن في المدينة، “فالصلاة مع غيرنا غير واردة، إنّما أقصد أنّ صلاة الجمعة فيما بيننا هي المشترطة بتمكّين الجماعة المسلمة، لأنّنا نتكلّم عن شروط صلاة الجمعة، أي أنّها لا تقام إلاّ بهذا الشرط، إن كان هو النّبي بنفسه إمام الجماعة المسلمة. لم يفرضها على نفسه وأصحابه من المستضعفين، وهذه حجّتنا”، فمصطفى شكري تجاوز مرحلة تكفير المجتمع والدولة إلى مرحلة وضع ضوابط تحرّك الجماعة المسلمة المؤمنة، هي جماعة مغلقة بتعاليم قطعيّة فيها تطبيق حرفي لنصوص القرآن ضمن سياقات تاريخيّة مختلفة، وخطة الجماعة “تقوم أصلا على الاِنسحاب من هذه المجتمعات ثم العودة إليها ثم العودة إليها لتغيير هذه المجتمعات من أساسها بكل ما فيها وقلبها رأسا على عقب.

يستشهد مصطفى شكري بالآية “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ”(البقرة: 1/193)، لتعميم قتال النّاس أجمعين، لأنّ الخطاب في هذه الرسالة موجه للمؤمنين وليس للناس، والمؤمنون هم الجماعة المجاهدة والعصبة المقاتلة، وقتل المسلم لا يكون إلاّ بثلاث: “فقد علمنا أنّ النّبي إذا أمر بقتل أحد لا يخرج عن كونه ثيّبا زانيا أو قاتلا لنفس، فإن لم يكن: فلا يكون إلاّ كافرا مرتدّا مفارقا للجماعة”، وطبعا مفهوم الجماعة عند مصطفى شكري هو “جماعة المسلمين” التي يتزعّمها هو أميرا، وقام مصطفى شكري بتكفير كل الذين غادروا الجماعة وعدّهم مرتدّين، فلاحقهم وقام بتصفيتهم، وبالاِستناد إلى قواعد التكفير التي وضعها سيّد قطب فليس هناك اِشكال في القتال، لأنّ التصنيف يقسم النّاس مؤمن وكافر، ويسخر مصطفى شكري من بعض الصفات الفقهيّة من كون مرتكب الخطيئة والمعصية هو فاسق، فيقوم بتأويل النصّ القرآني ليعدّ صفات مرتكب الكبيرة والمذنب والفاسق من صفات الكفر المطلق، فبما أنّ الجميع دخل دائرة الكفر والشرك،”والكافر أصل الحكم فيه أنه حلال الدم والمال، ولا تنفذ القاعدة النظرية هذه إلا بشروطها، ومن شروطها البلاغ”، فالجهاد عند مصطفى شاكر قتال مطلق في الزمن الحاضر من أجل الدّين كلّه، فما بعد البلاغ والتبليغ تدخل “جماعة المسلمين” في قتال مباشر لفرض طاعة الله وتطبيق شريعته.

إنّ الجهاد عند مصطفى شكري في المرحلة الراهنة لا يجب أن يتوجّه لليهود، فالقضيّة الفلسطينية واِحتلال اليهود للأراضي المصرية والسورية لا معنى له، لأنّه يعتبر أنّ كل الأراضي واقعة تحت حكم الكفّار، وأنّ جماعة المسلمين مطالبة بقتال الكافرين الذين يعيشون بجوارهم قبل قتــال اليهود، “فــالأرض التي احتلها اليــهود ليست إلا جزءا من أرض الإسلام التي يحتلّها سـائـر الكافرين في الأرض قبل اِحتلال اليهود.. والخطة الاِسلامية في إعادة هذه الأرض كلها لله تحت السلطان المباشر للجماعة المسلمة ليست بالضرورة تبدأ بقتال اليهود، ولم تكن كذلك أيام محمّد، بل قد أمر بقتال غيرهم قبلهم”، وهذا يثبت أنّ خطة الجماعات الاِسلامية غير معنيّة بالصراع العربي الصهيوني، وأنّ كفار المجتمع والنظام أولى بالقتال من اليهود والنصارى إلا في حالة الدّفاع عن النّفس ويكون ذلك عن مضض لأنّ جماعة المسلمين ستجد نفسها تقاتل جنبا إلى جنب مع الجيش المصري الكافر، بل تبدو حجة مصطفى شكري في المحاكمة أكثر غرابة في إقصاء اليهود من أية عداوة مع جماعة المسلمين، فلا حاجة لجهادهم في ظل الأنظمة الكافرة حتى في حالة الغزو لمصر، فيعترف علنا : “غير أنه من الناحية الواقعيّة الآن فإنه ليس لليهودي أي أثر على الجماعة، وفي ذات الوقت فإنّ الجماعة لقيت من مباحث أمن الدولة ما يجعلها في نظر الجماعة الذي تجب مواجهته، ولو أني كنت أعتقد أنّ اليهود سيدخلون مصر.. فليس بالضرورة أن يكون سلوكي تقديم شباب جماعة المسلمين للموت في هذه المعارك، إنّما قد يكون سلوكي هو ترك مصر وينتهي الأمر”.

تبدو تجربة مصطفى شكري كانت مختلفة عن تجربة صالح سريّة التي لم تدم أكثر من سنة ونصف لتنتهي بمحاولة اِنقلابيّة فاشلة، بينما كان لمصطفى شكري الكثير من الوقت في السجن كي يستوعب نظريّة سيّد قطب من خلال الجدل الذي وقع في السجون بين مساجين تنظيم 1965 الإخواني، فبعد مغادرته للسجن بدأ مصطفى شكري مباشرة العمل الميداني والتنظير للمشروع الحركي الجديد، فجنّد قرابة ثلاثة آلاف عضو في ما سمّاه “جماعة المسلمين” التي صارت تُعرف  بجماعة “الدعوة والهجرة”، واِستطاعت هذه الجماعة أن تكون حلقة من حلقات التطبيق الجهادي لنظرية سيّد قطب وأبي الأعلى المودودي، واستغلّ مصطفى شكري حالة الرخاوة الأمنيّة، التي تعمّدها نظام السّادات من أحل خلق توازن سياسي مع القوى الشيوعية الصاعدة ضدّ سياسة الاِنفتاح التي اِنتهجها، ليرتّب صفوف جماعة المسلمين ويخلق مجتمع مغلق له أدبياته وأخلاقه وتدريباته.

يمثّل مصطفى شكري حلقة مرجعيّة في تطوير مفهوم الجهاد المعاصر بصيغته القطبيّة، وما كان له أن يؤسّس مشروعه الحركي الجهادي لولا تمكّنه من المخزون العقائدي الذي حوّله من مجرّد مهندس زراعي إلى منظّر فكري للإسلام الجهادي، وبعد إعدام القيادة مكثت قواعد “جماعة المسلمين” في السجن فترة كانت كافيّة لمزيد تعميق الأفكار والخروج مشاريع جهاديّة مستقبليّة، وكانت “حركة الجهاد الإسلامي” المصريّة قد اِستوعبت ابناء صالح سريّة ومصطفى شكري، فلئن بلغ تعداد من جنّدهم صالح سريّة المائتين، فإنهم تضاعفوا مع مصطفى شكري فصاروا ألفين، وسيكون مسار تنظيم “الجهاد الإسلامي” المصري مختلفا عن سابق التجارب، والذي سيستوعب الألاف وتمتدّ في الزّمان لعقدين من الزمن بعمل ميداني جهادي واجه النظام المصري وأرهقه، وهو الذي في رصيده نجاح باهر حين قام بالتخطيط والتنفيذ في اِغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات وهو يحتفل بأعياد النّصر بين “ابنائه” مثلما كان يسمّيهم.

تنويه: كل الشواهد في المقال هي ملفوظ شكري مصطفى في محاكمته سنة 1977.

ملخص منشور مركز المسبار للدراسات والبحوث