شيعة شيعة شيعة

حين يتولى حزب الله مواجهة الانتفاضة ومحاولات إخمادها يضع نفسه في هذا المكان تماما فحاكم المصرف المركزي كان الأداة التي تولت المهمة ورئيس الحكومة وأعضاؤها كانوا المنفذين وهؤلاء كلهم كانوا قواعد سلطة الحزب.

بقلم: حازم الأمين

"حزب الله" يريد من سعد الحريري أن يقبل بتسميته رئيسا للحكومة. يحتاجه في هذا الموقع. وفي دالوقت نفسه لا يريد الحزب أن يدفع ثمن حاجته. ويبدو أن الحريري التقط هذه المرة حقيقة أن تصريف حاجة الحزب يجب أن يقابلها أثمان.

والحزب لم يعتد على دفع أثمان للحريري. العلاقة بينهما طوال السنوات السابقة انعقدت على قدر من التهديد والضبط والإجبار. 7 أيار (2008) والقمصان السود كانا نموذجان لهذه العلاقة. وما ساعد الحزب على بناء هذه المعادلة هو شروط الزعامة الحريرية الموصولة بمصالح المملكة العربية السعودية، والأخيرة تولت بنفسها إضعاف أداتها اللبنانية إلى حد وصل إلى سجنه. هذا بالإضافة إلى الشرط الذاتي لهذا الضعف، والمتمثل بسوء الإدارة الحريرية وضعفها وفسادها.

اليوم، يلعب "حزب الله" في ساحة اختلفت شروطها. لقد وصلت الدولة التي أنشأها حول سلاحه إلى حافة الانهيار، لا بل هي باشرت بالانهيار. هذه الدولة هي دولة "حزب الله" بالدرجة الأولى، والآخرين شركاء صغارا. هذا ما يفسر شعور الحزب بأن الانتفاضة تستهدفه، ويفسر أيضا بحثه الدؤوب عن وسيلة لإجهاضها مهما كان الثمن. هذا الواقع اختبره اللبنانيون في منذ اليوم الأول لبدء التظاهرات.

في الأيام الأخيرة بلغت محاولات الحزب ذروتها. معادلة "شارع في مقابل شارع" تنقلت في معظم مناطق الاحتكاك الأهلي، وأعلنت عن نفسها من دون مواربة. شعار "شيعة شيعة" يكشف على نحو لا يقبل اللبس حال الاختناق الذي وضعت فيه الانتفاضة "حزب الله". لا جواب عنها سوى "شيعة شيعة شيعة".

لكن ما لا يبدو أن "حزب الله" يتوقعه هو أن الشيعة أنفسهم هم من يتولى في العراق هز عرش قاسم سليماني. هذا ليس لأنهم ولدوا يكرهونه، بل لأن الرجل فشل بالمهمة، ولأن فساد سلطته أوصلهم إلى حافة الجوع. وفي لبنان أيضا سيجد الحزب نفسه قريبا جدا أمام حقيقة أن من دفع بهم للهتاف "شيعة شيعة شيعة" جائعون وعاجزون وعاطلون من العمل. وسيباشرون سؤال الحزب عما فعلته لهم دولته. وهذا ما بدأ يحصل عمليا، ذاك أن انشقاقات جوهرية بدأت تصيب قواعد الحزب. صحيح أن المنضمون إلى هذه الانتفاضة من قواعده لم يبلوروا خطابا واضحا ضده، لكنهم باشروا اختبارا مختلفا سيفضي بهم إلى التحقق من أن الحزب في الخندق الآخر، ولاحقا سيتحققون من أنه على رأس هذا الخندق.

هنا تماما تكمن قوة الانتفاضة اللبنانية، أي في أن حقيقة ساطعة لا يمكن إنكارها تتمثل في أن هذه الدولة، التي هي دولة "حزب الله" وحاضنته، أوصلتهم إلى حدود الجوع، لا بل أكثر من ذلك، فهم، أي اللبنانيون، اكتشفوا أن هذه الدولة ممثلة بنظامها المالي ومصرفها المركزي ونظامها المصرفي سرقت مدخراتهم، وأدخلتها في زواريب فسادها. اللبناني الذي تقاضى تعويضه التقاعدي وأودعه في المصرف، قام هذا الأخير بتسليفه إلى الدولة بفوائد مرتفعة، وتولت الدولة إهداره في فشلها وفي فسادها. واليوم أعلنت المصارف للمودعين أنه لم يعد بإمكانهم الحصول على مدخراتهم.

دورة الفساد هذه تولت تمديد عمر النظام الذي يحتضن "المقاومة" أكثر من ثلاث سنوات، هي سنوات الهندسة المالية.

القول بأن الدولة فاسدة وفاشلة يجب أن يضاف إليه حقيقة أنها أيضا دولة سارقة. لقد سرقت ودائع اللبنانيين في المصارف، فيما تقاضت الأخيرة ثمن تسهيلها المهمة فوائد مذهلة. أكثر من 20 في المئة تقاضت المصارف فوائد من الدولة اللبنانية. هذه الفوائد دفعها اللبنانيون من الضرائب ومن الرسوم، ولكن الأهم أنهم دفعوها من مدخراتهم التي أودعوها في المصارف. فهل من جريمة سرقة موصوفة أكثر وضوحا من هذه الجريمة.

حين يتولى "حزب الله" تصدر مواجهة الانتفاضة ومحاولات إخمادها، يضع نفسه في هذا المكان تماما. حاكم المصرف المركزي كان الأداة التي تولت المهمة، ورئيس الحكومة وأعضاؤها كانوا المنفذين، وهؤلاء كلهم كانوا قواعد سلطة الحزب وأركان دولته.

لن يطرح أحد على الانتفاضة اللبنانية سؤالا حول المرحلة المقبلة. فرص التظاهر ستوفرها آليات الانهيار، وسينضم مزيد من المتضررين إلى ساحات التظاهر. المشهد العراقي جلي على هذا الصعيد، فنظام قاسم سليماني الإقليمي توهم أن باستطاعته توظيف الخراب الأهلي والمذهبي في مشاريعه إلى ما لا نهاية، وها هو استثماره المذهبي قد وصل إلى حائط مسدود.

الثورات على الأبواب، وهي خرجت هذه المرة من ثقوب فشل جوهري لا يمكن رأبه بخطب التهويل المذهبي. وليس صدفة الفشل الذريع الذي أصيبت به مقولات السفارات ومساعي التخوين في كل من بغداد وبيروت، ذاك أن خط الانقسام هذه المرة مختلف تماما، ولا يجيد حسن نصرالله وميشال عون ونوري المالكي اللعب على تفاوتاته.

نُشر في صفحة الحرة