صبري فالح الحمدي يتتبع الوجود الروسي في الخليج العربي

كتاب 'الخليج والجزيرة العربية في المصادر الروسية' يعد محاولة نادرة لازالة اللثمام عن توجهات للقياصرة الروس نحو المياه الدافئة بدأت منذ القرن الثامن عشر وتزايدت في القرن التاسع عشر.

تندر الدراسات الأكاديمية التي تناولت السياسة الروسية في الخليج العربي والجزيرة العربية عبر سنوات التأريخ الحديث والمعاصر، والسبب ندرة المصادر الروسية وقلة المصادر المعربة منها، مما جعل تلك البحوث بحاجة إلى إضافات علمية تختص بمعرفة الدور الروسي وإزالة اللثام عن توجهات القياصرة الروس نحو المياه الدافئة/الخليج العربي. وهذا الكتاب "الخليج والجزيرة العربية في المصادر الروسية" للباحث العراقي د.صبري فالح الحمدي يتتبع موثقا ومؤرخا ومحللا للأنشطة الروسية في الخليج والجزيرة العربية، مسلطا الضوء على جوانبها المتعددة.

لفت الحمدي إلى أن أغلب المؤلفات والدراسات التي درست تاريخ المنطقة ركزت على ما قامت به البرتغال وبريطانيا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة الأميركية من فعاليات سياسية وعسكرية وتجارية، والوسائل التي اتبعها في التعامل مع شيوخها خدمة لمصالحها، فيما ظل النشاط الروسي الذي ابتدأ منذ القرن الثامن عشر وتزايد في القرن التاسع عشر واضحا في مظاهر عدة، ما بين وصول السفن التجارية والبعثات الطبية، فضلا عن الرحالة والبحارة الروس الذين وفدوا إلى سواحل الخليج العربي لأغراض شتى واستمر الوجود الروسي في المنطقة إلى سنوات قبيل الحرب العالمية الأولى.

وأشار إلى أنه اعتمد في كتاب على معلومات استقت من مصادر روسية معربة لاسيما الوثائقية المنشورة منها، وفي مقدمتها الوثائق والرسائل والمذكرات وما شابه ذلك المتعلقة بمنطقة الخليج والجزيرة العربية من القرن التاسع عشر، وفي بعض الأحيان قبل ذلك إلى القرن العشرين، وكان يرسلها وكلاء الشركات التجارية، فضلا عن المبعوثين الآخرين من قناصلة وأطباء ومهندسين عما شاهدوه عن مدن المنطقة وسكانها، كما ضمت تلك الوثائق أضابير احتوت معلومات قيمة عن الخط الملاحي بين أوديسا الميناء الروسي على البحر الأسود إلى البصرة الواقعة في شمال الخليج العربي وبالعكس، وكانت السفن الروسية تتردد على موانئ مسقط، بندر عباس، لنجة، بوشهر، البصرة، جدة وغيرها. فضلا عن احتوائها على جدول برحلات السفن التجارية الروسية سنويا، مما يدلل على وجود تبادل تجاري على درجة من التنظيم بين الجانبين.

وتابع "من الضروري الاشارة إلى وجود الأرشيفات الرسمية للقوات البحرية للاتحاد الروسي، والتي ضمت بين دفتيها أخبار عن مدن الخليج العربي وموانئه، فضلا عن الاعتماد على النصوص المقتبسة من الأرشيفات المركزية الرسمية للقوات البحرية وموقعها في سان بطرسبرج. وتعد من أقدمها، وهي الخاصة بسجلات تاريخ البحرية ونشاط الأسطول الروسي التجاري تم تأسيسها عام 1724، تشمل اكثر من "1.2" مليون صندوق للخرائط ويوميات السفن والرسوم، وبعضها احتوت على جوانب ذات أهمية تاريخية عن الاهتمام الروسي في منطقة الخليج العربي، ولاسيما عمان، فنحن بحاجة للاطلاع على معلوماتها ذات الأهمية التأريخية التي تتصل بقرون من الزمن عاشته سواحل الخليج العربي مع تلك الجماعات الوافدة، وتحتاج هذه الوثائق اليوم من الدارسين بذل جهود مميزة لمحاولة الكشف عن اتجاهات السياسة الروسية نحو المنطقة".

ورأى الحمدي أن روسيا توجهت بأنظارها نحو الخليج العربي رغم اتساع إمبراطوريتها وإشرافها على بحار عدة بغية الوصول إلى المياه الدافئة، لأنها محكومة بواقع جغرافي مغلق، فإنها بحاجة إلى منافذ بحرية مفتوحة. إذ إن البحار الروسية غير مفتوحة وقسم منها داخلي، مثالها بحر البلطيق المتجمد طيلة أيام السنة، أما البحر الأسود فهو من البحار الداخلية، ومما يعزز ذلك ما أوردته المصادر الروسية من ذكر لمدن الخليج العربي بوصفها مراكز للتجارة العالمية منذ القرن العاشر الميلادي بين بلاد الشرق والغرب، مما يشير إلى اهتمام روسي منذ وقت مبكر بالخليج العربي، وتكشف عن كثير من المحاولات لجمع بعض المعلومات عن شعوب المنطقة.

وأكد أن ما عرف بالوصول إلى المياه الدافئة قد تحول إلى شعار ثابت في السياسة الروسية على مدى قرون في التاريخ الحديث، وتزايد ذلك التوجه في عهد بطرس الكبير 1725 ـ 1682 الذي كان يبحث بشغف عن نهر يربط بين إيران والهند، فيما خاض حربين ضد الدولة العثمانية، وحربا واحدة ضد فارس ليواصل خلفائه هذه الحروب التي بلغ مجموعها عشر حروب مع الدولة العثمانية وثلاثا مع فارس على مدى قرنين كاملين من الزمن. واشتهر بطرس الكبير باعتماد سياسة خارجية تهدف إلى الوصول إلى المياه الدافئة، واهتمامها بالخليج العربي الذي تعد فارس المدخل الرئيسي نحوه، وهو يحاول ما ذكرته بعض المصادر التاريخية تنفيذ وصيته التي جاء فيها "توغلوا حتى تبلغوا سواحل الخليج العربي فتعيدوا الحياة إلى الطرق التجارية القديمة مع الشرق الأدنى".

ولاحظ الحمدي أن النشاط الروسي أخذ أشكالا عدة، من النواحي الدبلوماسية، وأحيانا أخذ منحى تجاريا، فضى عن الأمور الطبية والهندسية ومشاريع السكة الحديدية عبر أراضي العراق أو فارس للوصول إلى سواحل الخليج والجزيرة العربية، إلا أن الغالب من تلك الفعاليات هي المعلومات المتاتية مما تم تسجيله من الرحلات التجارية للسفن الروسية المنطلقة من موانئ البحر الأسود نحو السواحل العربية، ويلاحظ من خلال الوثائق التي ضمت مراسلات القناصل وقباطنة السفن الروسية، مدى ترحيب الأهالي وحكام المنطقة بقدومهم، وهذا يفسر لنا رغبتهم بالتخلص من الوجود البريطاني، الذي مارس أنواع الضغوط على شعوبها لتحقيق مصالحه، مما كان سببا في معارضة بريطانيا لكل خطوة تقدم عليها روسيا لترسيخ نفوذها هناك.

وعرض الحمدي للمعلومات التي ذكرها البحارة والرحالة الروس، فضلا عن آخرين من أعضاء البعثات الطبية والهندسية، وأفراد من الهيئات أو الوكالات القنصلية التي انشأت في مدن مسقط والبحرين والبصرة وبوشهر، الذين كانوا يعملون وبالتعاون مع وزارة الخارجية والبحرية الروسية لمتابعة النشاط الروسي في تلك المناطق وإدامة صلاتهم مع الأوساط الرسمية والتجارية ذات الشأن في المشروعات الروسية في تلك المناطق، التي تفاوتت أعمالها بين مدينة وأخرى، أو بالعلاقة مع شيوخ المنطقة، التي تباينت هي الأخرى تبعا لعلاقات الآخرين مع السلطات البريطانية الموجودة على سواحل الخليج والجزيرة العربية، المقترنة قوتها بوجود الأسطول البريطاني.

وذكر أن المصادر الروسية على اختلاف مسمياتها وثقت الأوضاع والتطورات السياسية في الخليج والجزيرة العربية وفي مقدمتها رصدها لأحداث عمان الداخلية والنزاع العسكري بين الإمامة والسلطنة، ودور بريطانيا في مجريات ذلك النزاع، ونجاح مبعوثيها بحارة وتجارا وعلماء طبيعة، فضلا عن القناصل العاملين في المدن والموانئ التي عملوا بها، والذين نقلوا لنا عما شاهدوه من أحداث سياسية في قطر وعلاقة شيخها قاسم بن محمد آل ثاني مع الدولة العثمانية وموقف بريطانيا من النزاع، حتى أن بعضهم دون آراءه بشأن الحركة السلفية نشوءها في نجد وانتشارها في أجزاء أخرى من الجزيرة العربية، وهي تقع في عمق أراضي صحراوية بعيدة عن جدة المطلة على ساحل البحر الأحمر، أو الإحساء الواقعة على ساحل الخليج العربي.

وكشف الحمدي أن المعلومات التي قدمها الحجاج الروس الذين زاروا الحجاز لأداء فريضة الحج للأماكن المقدسة كانت معلومات قيمة، "هؤلاء نقلوا لنا وصفا لقوافل الحجاج وطرقها، ومنها القادمة من مصر والشام والعراق واليمن، وما يقوم به شريف الحجاز من واجبات في توفير الأمن لهم، ومع حرص الحجاج الروس في تسليط الضوء على ما يبتاعونه من بضائع في أسواق الحجاز والتعريف بسكانها الذين هم من أجناس متعددة، والإشارة إلى طبيعة مدنها ونوع بناءها وأمور أخرى ذات جانب عمراني تتصل بالمدن المذكورة ذات المكانة الدينية لدى المسلمين كافة.

وأوضح الحمدي أن الروس منذ بداية تغلغلهم في منطقة الخليج والجزيرة العربية، لاسيما سواحلها قد استخدموا الخرائط البريطانية لأن المنطقة كانت مجهولة للسفن الروسية، فكان مهام الرحالة إعداد الوصف للموانئ والخطوط الملاحية المساعدة للسفن الروسية التجارية، وكان هذا العمل مهما لأنه مهد الطريق للسفن التجارية الروسية لإنشاء خط بحري بين موانئ البحر الأسود وسواحل الخليج والجزيرة العربية، فضلا عن تنظيم رحلات لسفن القوات البحرية، وقد استهل الروس فعالياتهم الدبلوماسية والاقتصادية في الخليج والجزيرة العربية بداية القرن العشرين، بزيادة ملحوظة في نشاطهم المتعددة الجوانب، وتزامن ذلك مع تصاعد تنافس الدول الأوروبية الأخرى، لا سيما بريطانية وألمانيا للحصول على مناطق نفوذ لها عبر وسائل عدة، فقد أوفدت الحكومة الروسية السائح "إس. أن. سيروماثيكوف" مطلع عام 1900 إلى المنطقة ليمهد للتعاون مع إمارات الخليج العربي مستقبلا ويتحرى إمكانية التواغل التجاري والمالي الروسي في موانئها ومدنها، وعلى إثر عودته إلى بلاده من زيارته لتلك الإمارات، أعد تقريرا كاملا ضمنه مشاهداته وبعد عام، أي في تشرين الثاني 1901 ألقى محاضرة عن انطباعاته عن سفره إلى الخليج العربي بحرا، تحت عنوان "أهمية الخليج والكويت الدولية" أمام أعضاء جمعية أنصار المعلومات العسكرية في سان بطرسبرج.

وتابع "لم تخل المصادر الروسية من الإشارة إلى موقف بريطانيا الرافض للتحركات الروسية في الخليج والجزيرة العربية، وتجسد ذلك فيما كتبه قائد السفينة "جلياك" "أن أندرينيونس" الذي زار الكويت وموانئ خليجية أخرى عام 1900، ومشيرا إلى ترحيب السكان بقدوم السفينة الروسية، في وقت كان فيه التنافس قائما بين الدولة العثمانية وبريطانيا، ولنستمع إلى ما ذكره بشأن تلك الزيارة وردودج الفعل البريطانية إزاءها بقوله "إنه رغم جميع الفتن التي يدبرها الإنجليز فإن مجرد ظهور "جيلياك" في البصرة سبب موجة من الحماس بين المحليين...، إن الترحيب الحار الذي قدمه الشيخ مبارك شيخ الكويت لـ "جيلياك" قد اظهر لعبته السياسة المعقدة ونية واضحة ليقيم ميزانا جديدا للقوى في الخليج بإضعاف قوة الأتراك وتقوية النفوذ المتزايد لبريطانيا العظمى".

وذكر الحمدي أن الوثائق الروسية تؤكد على ترحيب شيوخ وسكان إمارات الخليج والجزيرة بالبعثات الروسية، من خلال الرسائل التي كانت تبعث بها إلى الحكومة القيصرية وبخاصة تلك المشيخات التي تواجه ضغوطا بريطانية للسيطرة عليها، ومما يعزز ذلك ترحيب سكان الكويت والمحمرة والبحرين ومسقط ربما كان يمثل رد فعل من السياسة البريطانية في المنطقة. وإليكم نص ما ذكرته الوثائق لعام 1902 "إن مجرد اسم روسي يجذب الناس ويحب الشيوخ العرب أن يروا الروس في بلادهم أكثر فأكثر"، وأضاف "إن السكان المحليين شعروا بالنير البريطاني حول أعناقهم، ومجرد رؤية الروس زودتهم بالقوة للنضال ضد العبودية لبريطانيا وأعطتهم أملا بأن العالم لم يتركهم تماما تحت رحمة بريطانيا العظمى".

وخلص إلى أنه رغم مظاهر الترحيب للروس بحارة وتجارا ودبلوماسيين من شيوخ وسكان إمارات الخليج والجزيرة العربية على كل المستويات، لكن الروس لم يحاولوا الإفادة من ذلك التحريب، وظلت زياراتهم متقطعة ونظروا إلى الخليج والجزيرة العربية من بعيد، ولم يجعلوها في جوهر استراتيجياتهم الخارجية، مقابل نجاح تجارتهم في بيع بضائعهم المتنوعة هناك، وبإمكان ذلك زيادتها وتصريفها في أسواق المنطقة.

وختم الحمدي كتابه بـ 15 ملحقا التوثيقية منها ملحق خاص بـ "السفن الروسية القادمة من موانئ البحر الأسود إلى موانئ الخليج العربي بين 1904 ـ 1900 وعدد رحلاتها" كاشفا أن روسيا اعتبرت الخليج سوقا لمنتجاتها الوطنية خاصة المنسوجات والمأكولات والمكرونة وأدوات المائدة وحبوب السكر والكيروسين والشمع والزجاج والخزف الصيني والخشب، وتطلب تنظيم الخط الخليجي إدخال تعديلات في مواصلات السكك الحديدية داخل روسيا، ونقل وتسليم البضائع في المواعيد المحددة والرسوم الجمركية للملاحة البخارية.وملحق خاص باستقبال شيخ الكويت مبارك الصباح لقبطان وبحارة السفينة "غيلياك في الكويت في آذار 1900، وملحق يضم الرسائل الخاصة لنيقولا بوجويافلينسكي العضو العامل في اللجنة الموسكوية الإمبراطورية لمحبي العلوم الطبيعية والانتروبولوجية والاتنوجرافية إلى القنصلية العامة للإمبراطورية الروسية بالخليج العربي. وملحق خاص بالرقصات الشعبية لسكان الخليج والجزيرة العربية، وملحق خاص بالرسالة التي بعث بها القبطان جوجوير إلى بوجيافلينكس والمؤرخة في 1902، وملحق خاص برسالة الشيخ فيصل بن تركي إلى القنصل الروسي العام ببوشهر نيقولاي باسك عام 1904، ورسالة القنصل الروسي العام في بوشهر نيقولاي باسك إلى سلطان مسقط في فبراير/شباط 1905.