صلاح حسن يرى أن جسد النص وجسد المتلقي لهما تكوين فيزيائي واحد

كتاب "الإبداع والموت" للكاتب الكردي يطرح أسئلة شديدة الأهمية.
معضلات الحياة والموت هي التي تحافظ على هذه الكون والإنسان واستمراريتها
لسيرة موت النص تاريخ موغل في القدم يعود إلى عهد سقراط ويبدأ منه

ترى هل الموت هو توقف تلك الأعضاء التي تمارس عملية إحياء الروح وتطويرها عن الحركة واستهلاكها ولتلغي معها معنى الحياة؟ هل الموت يعني جسداً لا حراك فيه؟ أو تراه يعني المرحلة الثانية من الحياة؟ 
هذه الأسئلة الشديدة الأهمية محور بحوث كتاب "الإبداع والموت" للكاتب الكردي صلاح حسن پاڵە وان، حيث الموت بمعنى المحطة الثانية للحياة. وهذه دراسة صحيحة من الوجهة الدينية ووفق المناهج الفلسفية أيضاً تكون عبارة عن وجهة نظر ثابتة ومحكمة. لكنها وبحسب بعض التوجهات الفلسفية الأخرى هي مجرد لعبة حول الوجود واللاموجود، وأكثر من ذلك: لعبة مرحلتين من التفسير الإنساني أيضاً. 
يبحث صلاح حسن في كتابه الذي ترجمه عن اللغة الكردية محمد صابر، وصدر عن مؤسسة أروقة علاقات الموت والنص واشتباكاتهما مع الكتابة والسلطة والذائقة والتكنولوجيا والحلم والحرية والاغتراب والصمت والقوة، مشيرا إلى أنه - وبحسب المعتقدات والتفسيرات الفلسفية - الموت عبارة عن تلك اللحظات التي تحدث فيها التغيرات في الوجود وتشغلها جميعاً إشكالية واحدة ألا وهي: هل الوجود هو من أجل الموت أم أن الموت هو من أجل الوجود؟ مثلما نلاحظ ذلك في معظم المحاولات الفلسفية حيث نرى أطرافاً متناقضة وهي تواجه بعضها بعضاً، في هيئة تصدٍّ مثل الشعور والحياة/ النفس والجسد/ والوجود والعدم/ المادة والروح إلخ. ربما كان البعض من تلك الاشياء التي تبدو في ظاهرها حية ينعكس في صورة الموت، ففي عالمنا ومن خلال الرؤية الطبيعية نجد أن فقدان الحركة وتوقف الروح يأتيان بمعنى الموت. ولكن في التفسير الفلسفي يعني الموت انعدام الاستمرارية وانعدام الحركة وانعدام جمالية الروح. هذه هي بعض من تلك المفاهيم التي تدخل ضمن التفسيرات.
قبل أن يبدأ صلاح حسن في تحليلاته يتوقف عند صلة الموت بالنص والعكس، حيث يرى أن النص ظاهرة تبدأ من انتحار يحدث بهدوء في العمق. إن كل نص ما هو إلا خطوة باتجاه المستقبل، صوب قادم مجهول قادم ولامرئي. ذلك القادم/ الآتي الذي يقيم حاجزاً مفصلياً بين الحاضر وزمن بزوغ النص، إنما المهم هو أنه يسير باتجاه الآتي المقبل، وفي مسيرته هذه يترافق الموت والحياة معاً. أو أنه على مفترق أحد طريقين: أن يختار طريق الحياة أو طريق الموت. في حالة النص يكون الموت حاضراً من خلال نقطتين: أولاهما: ولادة النص داخل الوعي، والوعي هنا هو بمعنى الروح التي هي على الضد من السكون/ التوقف، أي إن الروح تعني الحركة والنشاط والحيوية. 
ويقول "في هذه النقطة الحاسمة يتشكل النص داخل الوعي الذي هو وعي المبدع. إذن حين يولد النص حياً: وقصدي من كلمة - الحي - أنه شبيه بنص جديد، وتتآلف تركيبته اللغوية والمجملة مع المضمون/ المحتوى في كل مشترك ليكون الناتجَ. غير أنه حالما يصل خارج الوعي يتحول إلى نص ميت منزوع الروح، وهنا يستحيل عليه الدخول في أي حوار مع أي كان. متى تظهر هذه الحالة؟. إنها تظهر عندما تقوم العلاقة بين النص والمتلقي. ثانيتهما: نقطة ولادة النص داخل وعي شبه ميت أي راكد ومتجمد. وهذا الشكل من الوعي ينتج بدوره نصاً هو رديفه: ميتاً، والذي يستحيل عليه هو الآخر إقامة أي علاقة بينه وبين محيطه الخارجي. إن المقصود بعبارة "محيطه الخارجي" هو المتلقي بجميع شرائحه وأصنافه أي أنه ميت حال ولادته، لأن موته قد تحقق عندما لم يستطع أن يثير أو يحرك مشاعر مَن حوله مِن الذين يعقدون معه علاقاتهم. بذلك نكون إزاء نص محنَّط. 
ويؤكد إن لسيرة موت النص تاريخاً موغلاً في القدم يعود إلى عهد سقراط ويبدأ منه. عندما نادى سقراط بآرائه وتوجيهاته حول سيرة الفكر والوجود طارحاً إياها في مجموعه لمعاصريه، أحدث بها ضجة كما أثار الذهول في أوساط مجتمعه والذي يمكننا اعتباره بداية الموت المفهَم في التاريخ المعاصر والدائر بين العقلانية واللاعقلانية.

ليس الموت تكراراً للتساؤلات المهمة وإنما هو توقف لتلك الأجوبة التي لا تصل إلى الإنسان أبداً

ويرى صلاح حسن أن النص الفاقد للذائقة ليست له أي وظيفة سوى أنه يشبه ميتاً داخل تابوت ينتظر من يواريه الثرى. إذن من هنا نستطيع أن نعين تلك النقطة التي يدور فيها النتاج والنص خلال علاقات الذائقة. نحن نستطيع هنا أن ننظر إلى الحياة مثل نص من النصوص وإن النص المانح للذائقة هو الحياة بشكلها الحقيقي، وهي المفعمة بالحيوية والنشاط وأن النص الذي لا يمنح الذائقة هو الموت.
ويشير إلى إن موت النص يعني موت الحياة، ويتساءل: إذن فما هي الذائقة الموجودة في موت الحياة؟ ويقول "تحديد النص إحدى تلك النقاط التي تتسبب في موت النص. الحفاظ على التوازن داخل النص، وخارجه حاجة ماسة ومهمة للإبقاء على الذائقة. لأن عظمة هذه الذائقة تتسرب من داخل النص إلى أعماق المتلقي. إذن هناك عملية دائرية. انسجام أعماق المتلقي مع أعماق النص يتسبب في خلق الذائقة. هناك بعض الآراء تذهب إلى أنه ربما منح نص ما في مجتمع معين أجمل ذائقة غير أن نفس النص في مجتمع آخر يصاب بالموت لأنه هنا ـ في المجتمع الثاني ـ تتشكل دائرة غير مكتملة وأسباب عدم تشكيل الذائقة مرتبطة بالعلاقات المتنوعة المختلفة. مثال على ذلك، إذا كان مجتمع ما واقعاً تحت وطأة الكبت والقمع والحصار الفكري، فإنه يحاول كسر ذلك الحصار لتمتد يده إلى النصوص التي تتلاءم مع متطلباته ورغباته. 
إن العلاقة في النص المكتوب هي علاقة معقدة ومتشابكة جداً. مثال ذلك أن بعضاً من المجتمعات المصابة بدوار الأيديولوجيات الخاصة أو المؤثرات الدينية فإن مسألة الذائقة تأخذ مستوىً آخر! من المحتمل أن تبلغ ذائقة المجتمع الذي يقع تحت تأثير أيديولوجيات خاصة لنصوصها درجة عالية جداً لكن نفس النصوص محرومة من البديع والزخرفة وقدرة وإمكانية الجمالية/ الإستاتيك.
ويتطرق صلاح حسن إلى علاقات النص والتكنولوجيا والمتلقي والموت، ويقول "إن جسد النص وجسد المتلقي لهما تكوين فيزيائي واحد من الأعماق، إن هذين الجسدين يستطيعان في حالة واحدة أن يتحديا وتلك الحالة هي أن يندمجا مع جسد المتلقي الذي يستطيع بكل سهولة أن ينفصل عنه. بمعنى أنه في هذه الحالة يعي مفهوم الموت فيحيد به عن ذلك الطريق، لذلك نرى أن سلطة الذائقة تلعب دوراً كبيراً في هذه الحالة، وتلك السلطة بدورها تتحقق نتيجة مواجهة الطرفين لبعضهما بعضاً، فإذا استطاع المتلقي أن يبقى تحت تأثير سلطة تلك الذائقة فإنه يولد حياة في أعماق نفسه بالذات، بهذه الصورة لن يجد الموت موضعاً له في ذلك المجال. 
قراءة النص معناها البحث عن الذائقة. الرغبة لها حضور داخل ذات المتلقي. رغبة البحث وراء الذائقة. كل متلق ٍ يجد ذائقته في نص معين. إذا كون أي نص علاقة مع المتلقي، على مستوى عمودي فسوف تنشأ جراء ذلك أعظم ذائقة، وبهذه الوسيلة يستحوذ على أكبر قدر ممكن من الرغبة ويأخذ مكانه بين شكل من أشكال الاستمرارية والحياة. وهكذا فإن العثور على الذات بين ذات المتلقي وذات النص يتحقق بموت إحدى الذاتين لكي تبقى الأخرى على استمراريتها. إن ذات النص تتغلب على المتلقي بقدرتها وقوتها الذاتية وبهذه الطريقة تعلن ذات النص عن حيويتها، ولكن فيما إذا كانت سلطة ذات المتلقي أكبر من سلطة ذات النص فإن ذات النص تتوجه نحو الموت. وبهذه الصورة أيضاً تذاع رسالة الموت. أما في النصوص التكنولوجية فإننا نرى أن كل نص جديد يخلق اندهاشاً لدى المتلقي لذلك فهو حيّ على الدوام – خالد.
ويتساءل: في بعض الأحيان يعلن النص عن دكتاتوريته. كيف ذلك؟ ويرى أن "ظاهرة الديكتاتورية هذه واضحة في النصوص السياسية والدينية. غير أنها تلاحظ بنسبة قليلة في التكنولوجيا. إن هذه الديكتاتورية ليست في كونها أنها تملك سلطة وهمية فقط وإنما استمدت سلطة مصادرها من تلك الشفرات والعلامات والرموز التي تتوغل في أعماق المتلقي الذي أصيب من جرائها بالدوار، ولا يستطيع التخلص والفكاك منها بسهولة فتختفي ممتزجة بأعماقه مخلفة لديه ذائقة شبيهة بالوهم حيث تشكل قوة قاهرة لخلق الاعتقاد في أعماق المتلقي. إن معظم تلك النصوص التي منحت أعماق المتلقين ورفدتها بالذائقة عبر التاريخ هي ذات أساليب متنوعة، لكنها في كل الأوقات والأزمنة كان الغرض منها كبح جماح رغبات، كانت عبارة عن تغيير أعماق المتلقي ومزاجه".
ويلفت صلاح حسن إلى أن توازن النص يختل عندما يستطيع كيفية انتزاع نفسه من دائرة التكرار. النصوص المكررة المعادة المستهلكة هي تلك التي تزرع الموت على الدوام. إن النص الذي يراوح دائماً بين قراءات عدة وعبارات قديمة، يستطيع أن يتحدث بلغة يفترض فيها أن تعبّر عن ذلك الموضوع الذي يريده هو. وهذه الحقيقة تتجلى في الكثير من تلك النصوص المنتشية بالأدوات المستهلكة وشفراتها مصابة بالانسداد. يقسم موت النص إلى نوعين:
الأول: يشمل تلك النصوص التي حالما تولد تموت، لأن أصحابها قد استفادوا من جملة من المواد المستهلكة الميتة، وهذه الظاهرة تنسحب على الألوف من تلك النصوص التي تولد يومياً حيث إنها وقبل أن تفتح عيونها على الدنيا تولد وهي ميتة، لا تحمل أية رسالة ولا تملك شيئاً تقوله. لا هي تعي نفسها ولا الرسالة التي تحملها. 

كل المعادلات المتعلقة بهاتين الحالتين الموت والحياة، لها حضور في كل مكونات العلاقات، يتلون بها صعوداً ونزولاً

الثاني: ويشمل تلك النصوص التي تريد أن تولد ومن ثَمّ تستقر لساعة، بعدها يكون لها تأثير في بنية شعور الإنسان لفترة من الوقت غير أنها فيما بعد رويداً رويداً من خلال حشرجاتها تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولهذا السبب يُقرّ غاستون باشلار في بحوثه حول مسألة العلم والنص العلمي بأن النص العلمي لكي لا يصاب بالموت ينبغي أن يثير الخيال والشعور. ومن هذا المنطلق أيضاً يعتقد وقد كان على اعتقاد دائماً بأن النص يثير الدهشة عندما يستطيع أن يكون فنياً. وكما أننا نتكلم في بحوثنا أعلاه عن أهمية جانبي النص في الحضور والغياب. كذلك أنه من الأهمية بمكان أن لا نهمل بأن الوجود. وجود أية ظاهرة مرتبط بوجود الموت والحياة والذائقة وعدمها.
ويخلص صلاح حسن إلى أن كل المعادلات المتعلقة بهاتين الحالتين الموت والحياة، لها حضور في كل مكونات العلاقات، يتلون بها صعوداً ونزولاً، حيث لا تتجلى أية ظاهرة للعيان إذا كانت خارجة عن إطار هذه العلاقة، وأية ظاهرة لا تتجلى ولا تبدو للعيان إذا لم يجمعها محوران متضادان: مذ وجد المعنى والفناء، الروح، والكون، المادة والله، واجه الإنسان هذه المعضلات. منذ أن استقرت هذه المعاني كان الإنسان يواجه هذه الأسئلة الأزلية الضاغطة على نفسه وما يحيط به. 
الموت هو رسوخ كل ذلك الوجود والظواهر التي تضغط على الإنسان وتضطره لكي يتساءل. ليس الموت تكراراً للتساؤلات المهمة وإنما هو توقف لتلك الأجوبة التي لا تصل إلى الإنسان أبداً. فالبيئة في تفسير الحياة والموت هي البيئة والمحيط والظواهر أمام الموت والحياة هي ظواهر. فإذا كان الموت سباتاً للنبضات، ومسحاً لتلك الصورة التي تريد الاستقرار على صفحات الحياة فإن الحياة ما هي إلا إعادة لبناء الشهقات القصيرة وتلوين لتلك الألوان الذابلة.
إن معضلات الحياة والموت هي التي تحافظ على هذه الكون والإنسان واستمراريتها. الموت ليس هو الذي يرى بالعين المجردة وتحسُّ به وإنما هو ظاهرة في غدوٍّ ورواح بشكل سري في جزء من أجزاء الموجود. ليس هناك من حس يدرك كنهه، في كل لحظة تحاصرنا تلك الميتات وتشبه موت خلية في جسد الكائن الحي والتي لن تعود إلى الحياة مرة ثانية. وفي المقابل ثمة حياة ترى في خفايا كل الوجود سريعاً من دون أن تتمكن اليد من مسكها ومحاصرتها.