صنعاء جائزة ترضية!

لا مفرّ من التساؤل هل وضع قبعات زرق ثمن يبرّر الاعتراف بالحوثيين بصفة كونهم شرعية أخرى في اليمن؟

كانت السنة 2018 سنة يمنية صعبة. انتهت بجولة مفاوضات انعقدت في احدى ضواحي ستوكهولم اسفرت عن اتفاق في شأن مدينة الحديدة ومينائها. يقضي الاتفاق بتسليم الحوثيين المدينة والميناء الى الامم المتحدة التي ستشرف عليهما وذلك من اجل تأمين وصول مساعدات الى اليمنيين. هل يسلّم الحوثيون الحديدة ام هدفهم كسب الوقت ليس الّا من منطلق ان العنصر الاهمّ في الصفقة هو وجود الامم المتحدة في الميناء الاستراتيجي المطلّ على البحر الأحمر؟

في الواقع، دخل الحوثيون الذين يسمّون نفسهم "انصار الله" عبر مفاوضات السويد في صفقة وضع أسسها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث الذي يبدو واضحا ان لديه رهانا على النجاح في مهمته عبر سياسية تجزئة الازمة اليمنية الى قضايا صغيرة مطلوب حلها الواحدة تلو الأخرى وصولا الى حل نهائي قد يرى النور كما قد لا يراه. لكن الحلول الصغيرة لقضايا محدّدة تظل افضل من لا شيء في ظل الوضع الإنساني المخيف الذي يعاني منه اليمن.

يبدو أيضا ان غريفيث يتفادى الدخول مباشرة في مفاوضات الحل الشامل خشية ان تنتهي مهمته على غرار ما انتهت اليه مهمتا سلفيه جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ احمد.

نجح مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة حتّى الآن في وقف التصعيد العسكري في الحديدة حيث خفت حدة المعارك بين "انصار الله" وقوات الشرعية التي حققت في مرحلة ما قبل اتفاق ستوكهولم تقدّما لا بأس به على الأرض. لم يكن هذا التقدّم يعني الاقتراب من حسم المعركة في الحديدة عسكريا. هناك أسباب عدة حالت دون الحسم من بينها الدور الذي لعبه غريفيث منذ ايّار – مايو الماضي من اجل بقاء الوضع معلّقا في الحديدة التي يريد ان يكون هناك وجود للأمم المتحدة فيها، خصوصا في الميناء الذي يمتلك اهمّية استراتيجية من جهة والذي يهمّ البريطانيين من جهة أخرى.

يؤكد مدى الاهتمام البريطاني بالحديدة الزيارة التي قام بها لستوكهولم وزير الخارجية جيريمي هانت كي يحضر توقيع الاتفاق في شأن المدينة والميناء. ذهب هانت الى السويد في وقت كانت كلّ الأنظار في بريطانيا منصبة على الوضع الداخلي ومصير حكومة تيريزا ماي التي فشلت في تمرير اتفاق الخروج من الاتحاد الاوروبي في مجلس العموم (البرلمان).

يظل وقف التصعيد العسكري الإنجاز الاوّل لغريفيث الذي لم يستطع الى الان تحقيق أي اختراق يذكر في ما يخص تبادل الاسرى بين الحوثيين والشرعية وإعادة تشغيل مطار صنعاء. لكنّ ما لا يمكن تجاهله ان مبعوث الأمين للعام للأمم المتحدة وضع الأسس لوجود قوات دولية في ميناء الحديدة تكون بقيادة جنرال هولندي لديه خبرة سابقة في مجال حفظ السلام.

اذا كان غريفيث نجح الى الآن في تجزئة الازمة اليمنية وفي الحد من التصعيد وفي وضع الأسس لوجود "القبعات الزرق" في الحديدة، لا مفرّ من التساؤل هل هذا الثمن يبرّر الاعتراف بالحوثيين بصفة كونهم شرعية أخرى في اليمن؟

قد لا يكون حصر المفاوضات بالشرعية و"انصار الله" ذنب غريفيث وحده وذلك في غياب قيادة شرعية تعرف تماما ما الذي تريده. بكلام أوضح، تحوّلت هذه الشرعية الى عبء على التحالف العربي الذي بذل، الى الآن، الكثير من اجل وضع حدّ للمشروع الايراني في اليمن والذي يشكّل "انصار الله" رأس حربته. هناك مشكلة كبيرة اسمها الشرعية التي تحتاج الى إعادة تشكيل كي تقلب ميزان القوى العسكري وكي تمثل بالفعل كلّ القوى اليمنية المعترضة على المشروع الحوثي الذي ليس سوى مشروع إيراني لا اكثر ولا اقلّ.

من المفترض إعادة تشكيل الشرعية في حال كان مطلوبا التصدّي الفعال للحوثيين وفي حال كان الهدف الوصول الى مرحلة لا تكون فيها صنعاء وجوارها ضحية مشروع متخلّف لا يؤمن سوى بالشعارات الفارغة من نوع "الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للاسلام". كيف يمكن لجماعة يمنية رفع مثل هذا الشعار وتجاهل ان هناك يهودا يمنيين؟ من يرفع مثل هذا الشعار يقدّم اكبر خدمة لإسرائيل التي يدّعي الحوثيون انّهم يريدون ازالتها من الوجود...

يبدو ان الحوثي ملكي اكثر من الملك. لا يزال يتمسك بشعار "الموت لإسرائيل واللعنة على اليهود" في حين يخرج وزير الخارجية الايراني محمّد جواد ظريف ويقول لمجلة "لو بوان" الفرنسية انه "لم يوجد أي مسؤول إيراني نادى بتدمير إسرائيل وازالتها من الوجود في يوم من الايّام". هذا على الاقلّ ما نشرته "لو بوان" ولم ينفه ظريف. ولكن ما العمل مع مجموعة متخلّفة تعتقد ان في استطاعتها الاقتداء بتجربة "حماس" في قطاع غزّة وتطبيقها في شمال اليمن او على جزء مما كان يسمّى في الماضي، قبل العام 1990، "الجمهورية العربية اليمنية"؟

ثمّة ما يبرر لجوء غريفيث الى تجزئة الازمة اليمنية، لكن السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا ام آجلا هل هناك ما يبرر حصر تمثيل الجهة المعترضة على الشرعية بمجموعة انقلابية تراهن على الوقت من اجل انشاء كيان تابع لإيران في شمال اليمن عاصمته المدينة العريقة التي اسمها صنعاء؟

يراهن الحوثيون على الوقت والتسويف.  قد يكون ذلك عائدا الى اعتقادهم ان ما يهمّ مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة قبل أي شيء آخر هو ميناء الحديدة ووجود القوات الدولية فيه... امّا مسألة ما سيحل باليمن في مرحلة لاحقة، فهذه متروكة لتطور الاحداث.

في ظلّ هذه المعطيات تبدو ازمة اليمن مرشّحة لان تطول سنوات عدة بعدما اصبح الحلّ الشامل مؤجلا. ليس ما يدعو الى التفاؤل باستثناء ان التصعيد العسكري متوقف حاليا، بشكل نسبي طبعا. لكنّ الأكيد ان كلّ التطورات تشير الى انّ الحوثيين يعدون نفسهم لاقامة طويلة في صنعاء وجوارها على غرار إقامة "حماس" في غزّة.

استولى الحوثيون على صنعاء في 21  أيلول – سبتمبر 2014. حاولوا التوسّع في كلّ الاتجاهات. وجد من يخرجهم من عدن والمخا. اخرجهم من هذين الموقعين الاستراتيجيين المطلين على البحر الأحمر التحالف العربي. وجد الآن من يدفع ثمن خروجهم من ميناء الحديدة، وهو خروج قد يكون شكليا لكنه يمكن ان يعني ترك اهل صنعاء لمصير بائس لا يستأهلونه. صنعاء مدينة عريقة فتحت أبوابها لكل اليمنيين من كلّ المناطق. تستحق صنعاء، على الرغم من انّها لن تعود يوما المركز الذي يحكم منه اليمن تفكيرا في مستقبلها بدل تركها مكافأة او جائزة ترضية للحوثيين على خروجهم من ميناء الحديدة... الذي خرجوا منه من دون ان يخرجوا، اقلّه الى الآن.