طقسنة الأنوثة والعلاقات الجنسية في الفضاء الاجتماعي

أعمال عالم الاجتماع الكندي الأصل والأميركي الجنسيّة إرفينغ غوفمان تتميز بأسلوب بسيط في الكتابة.
المؤلف أوضح كيف تقوم التفاعلات الاجتماعية بين أفراد الجماعة ببناء التمايزات بين الجنسين
الكتاب الذي ترجمته الباحثة المغربية هدى كريملي هو أوَّل عمل يُترجَمُ لإرفينغ غوفمان إلى اللغة العربيّة

تتميز أعمال عالم الاجتماع الكندي الأصل والأميركي الجنسيّة إرفينغ غوفمان بأسلوب بسيط في الكتابة؛ لذلك كانت أعماله في متناول فهم فئة واسعة من القرّاء، وكانت تباع في المكتبات الجامعيّة والمكتبات التجاريّة على حدٍّ سواء. لكن، على الرغم من خاصيّة بساطة الأسلوب، فإنَّ أعماله تتميز بعمق كبير وبناء نظري متين مكوّن من مجموعة قليلة من المفاهيم التي تشكّل الأسمنت الذي يجمع تلك المعطيات الميدانيّة الدقيقة جداً التي يجمعها من الواقع التجريبي. 
وهذا الكتاب "البناء الاجتماعي للهوية الجنسية" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود وترجمته الباحثة المغربية المتخصصة في سوسيولوجيا النوع الاجتماعي هدى كريملي، وراجعه وقدم له د.حسن احجيج، يضمّ الدراستين الوحيدتين اللتين كتبهما غوفمان عن النوع الاجتماعي "الجندر". وبفضلهما أثار المؤلف كيف تقوم التفاعلات الاجتماعية بين أفراد الجماعة ببناء التمايزات بين الجنسين.
الدراسة الأولى "الجندر والتفاعل الاجتماعي" عالجت العلاقات الجنسية في الفضاء الاجتماعي الواسع، وركزت أساساً على كيفية بناء الرجال والنساء باعتبارهم فئتين جنسيتين متعارضتين. وأوضحت أن هاتين الفئتين ليستا من صنع الطبيعة "البيولوجيا"، وإنّما من إنتاج المجتمع الذي ينتج هذا التمايز ويحوله إلى "مؤسسة". ويبتكر غوفمان عبارة "الانعكاسية المؤسساتية" التي تعني أن تَرسُّخ الاختلافات الجنسية في المؤسسات الاجتماعية يُضفي سمة طبيعية على الترتيبات الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات الجنسية.
وفي الدراسة الثانية "طقسنة الأنوثة" يصف غوفمان كيف تُعرَضُ الأنوثة والذكورة في وسائل الإعلام الغربية من خلال معالجة أكثر من "500" صورة إشهارية، حيث حلّل أوضاع أجساد النساء والرجال وملابسهم، وكشف عن الصور النمطية المبنية اجتماعياً المتعلقة بالجنسين معاً. إذ يتمّ تصوير المرأة على أنّها ناعمة وضعيفة وهشة وحالمة شبيهة بالطفل وخاضعة. بينما يتم تصوير الرجال على أنهم واثقون من أنفسهم، لهم حضور قوي، على معرفة بمحيطهم، بل مرعبون ومستعدون لمواجهة كلّ ما يأتي في طريقهم.
وأوضح د.حسن احجيج أن إرفينغ غوفمان "1922-1982" لم يكن متخصّصاً في دراسة النوع الاجتماعي؛ بل يمكن المجازفة بالقول إنَّه لم يكن متخصّصاً في موضوع اجتماعي معيَّن، كالتواصل، أو المرض العقلي، أو الإعاقة الجسديَّة، أو غيرها من الموضوعات التي اعتدنا مصادفتها في الكرّاسات التي تقدّم نظريته السوسيولوجيّة؛ بل إنَّه، بالأحرى، عالم اجتماع متخصّص في دراسة ما انتهى بتسميته "نظام التفاعل"، الذي يشكّل إطاراً تحليليّاً تندرج فيه كلّ الموضوعات الاجتماعيّة المتعلقة بالتفاعلات البشريّة المباشرة؛ أي التي تتمّ بين الناس وجهاً لوجه. 

غوفمان يُعدُّ مع هارولد بيكر أهمَّ ممثلي مدرسة شيكاغو الثانية والتفاعلية الرمزية

لم يكتب غوفمان كثيراً حول موضوع العلاقات بين الجنسين؛ بل على وجه الدقة كتب عملين اثنين، كانا في الأصل مقالين: الأوّل يحمل عنوان "الجندر في الإشهار"، نشره صاحبه سنة 1976 في مجلة "دراسات في أنثروبولوجيا التواصل البصري" والثاني نشره في مجلة "النظريّة والمجتمع" سنة 1977 تحت عنوان "ترتيبات الجنسين".
وأشار إلى أنَّ هذا الكتاب هو أوَّل عمل يُترجَمُ لإرفينغ غوفمان إلى اللغة العربيّة. فعلى الرّغم من شيوع اسم هذا المفكّر في الأوساط الأكاديميّة العربيّة، إلّا أنَّه لم يتحمّل أيّ مفكّر عربي، ولا أيّة مؤسّسة ثقافيّة عربيّة، عناء نقل بعض أعماله الرائدة في علم الاجتماع التفاعلي إلى لغة الضاد. ولعمري إنَّ هذه المفارقات هي التي تؤثر بشكل كبير في الطريقة التي يتمّ بها تداول العديد من المفكّرين العالميين المرموقين في حقلنا الفكري العربي، حيث يستعمل الباحثون العرب نظريّاتهم ليس اعتماداً على أعمالهم الأصليّة، إنَّما انطلاقاً من بعض الشروحات والتعليقات العربيّة التي يتمّ تداولها في الإنترنت.
وقال احجيج إنه بالنظر إلى القيمة العلميّة التي تحظى بها نظريّات غوفمان في النوع الاجتماعي، ونظراً إلى الأهميّة الكبيرة التي يكتسيها نقل هذه النظريّات إلى اللغة العربيّة، فقد حرصنا على أن تتميز هذه الترجمة بأكبر قدر ممكن من الدقة والوضوح؛ لذلك عمدت إلى مراجعتها على ضوء الترجمة الفرنسيّة أوّلاً، ثمّ على ضوء النصّ الإنجليزي الأصلي، وذلك بهدف تبديد بعض أشكال الغموض التي تعتري بعض عبارات الترجمة الفرنسيّة، أو تدقيق ترجمة بعض المفاهيم انطلاقاً من لغتها الأصليّة. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار الترجمة العربيّة دقيقة بشكل مضاعف؛ بمعنى أنَّه تمَّت مقارنتها، أوّلاً، بالترجمة الفرنسيّة، ثمّ تمَّت مراجعتها على ضوء النصوص الأصليّة لإرفينغ غوفمان.
يذكر أن غوفمان يُعدُّ مع هارولد بيكر أهمَّ ممثلي مدرسة شيكاغو الثانية والتفاعلية الرمزية. من أهمّ أعماله: منافي، وصمة، عرض الذات، طقوس التفاعل، أطر التجربة، وأعمال أخرى عديدة. كان رئيساً للجمعية الأميركية لعلم الاجتماع.