طيب جبار يكتبُ الشعر ليحتفي بالذات بعيداً عن الصخب 

الشاعرُ العراقي يرى أن الوظائف والمهن مدمرة للروح إلى حد كبير حيث تُبعدك عن مدار اهتماماتك الذاتية.
طيب جبار من الأصوات الشعرية التي حافظت على خصوصيتها
فلسفة القصيدة هي اغتراب الإنسان في المجتمع

حاوره: كه يلان محمد 

يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري إن الشعر هو ما لا انتهاء لما يعنيه، وقد يكمنُ سرُ الشعرِ فيما يحتويه على معانٍ ودلالات مُتعددة وثورته على اللغة العادية  وارتياده آفاق مجهولة، لأنَّ الشعر مجهول يبحثُ عن مجهول على حد قول محمد علي شمس الدين، لذا لا يمكنُ الإستغناء عن الشعر طالما معرفة ذاك المجهول تراود الإنسان. فكانت الاسبقية في الأدب الكردي كغيره من الآداب الأخرى للشعر فبرزت أسماء شعرية أغنت اللغة بإبداعها. 
الشاعرُ طيب جبار من الأصوات الشعرية التي حافظت على خصوصيتها إذ يكتبُ الشعر ليحتفي بالذات بعيداً عن الصخب والعبارات المشحونة بالنفس الأيدولوجي وهذا ما لفت نظر النقاد في إبداعه الشعري، إذ نشرت دراسات عديدة عن مجاميعه الشعرية التي ترجمها الناقد الشهير عبدالله برزنجي إلى اللغة العربية، كما صدرت ثلاثة مؤلفات نقدية حول تجربة الشاعر منها "رائحة الإلتفات"، "المرشد إلى الظلام".
سألته: من الهندسة انتقلت الى الشعر ولم يعد لديك اهتمام بمجال اختصاصك إلا بالقدر الذي يعزز عندك الذائقة الأدبية، هل أصبحت مقتنعاً بأن كل الوظائف مدمرة للروح بأستثناء الشعر؟
فأجاب: عفواً، أنا من الشعر جئتُ إلى الهندسة. كنت أكتب الشعر قبل أن أصبح مهندساً، او حتى قبل أن أكون طالباً في كلية الهندسة. بدأت كتابة الشعر في بداية سنة 1970، وأصبحتُ طالباً في كلية الهندسة أواسط سنة 1972 وتخرجت سنة 1976. عندما بدأت كتابة الشعر لم تكن الهندسة من اهتماماتي ولم أفكر فيها، ولكن كنت مهتماً بالرسم الزخرفي، أي أن الشعر داهمني قبل الهندسة، وكنت أكتب الشعر خلال دراستي الجامعية وبعد التخرج أيضاً. 

مشتركات بين الشعر والهندسة
القصيدة على شكل قوائم حزبية مشاركة في الانتخابات

نعم .. فالوظائف والمهن مدمرة للروح إلى حد كبير حيث تُبعدك عن مدار اهتماماتك الذاتية، ومن خلال ممارستي للهندسة كمهنة توصلتُ إلى قناعة بأن هناك مشتركات بين الشعر والهندسة، الشعر فن، كذلك فإنَّ الهندسة علم وفن، كلاهما يحاولان خلق صورة جديدة، إذا كانت اداة الشعر هي الكلمة فإنَ إداة الهندسة هي المواد الطبيعية، الشعر يخلق صورة معنوية تمنحك المتعة والدهشة، والهندسة بدورها تقدمُ صورة مادية ماتعة ومُفيدة. الشعر يتعامل معنوياً مع كافة مفردات الطبيعة والانسان بواسطة اللغة لخلق الصورة الجديدة وتوفير المتعة والإدهاش والسعادة الروحية، الهندسة تتعامل على المستوى المادي مع المُعطيات الطبيعية. 
ويرى أكثرية النقاد والمفكرين بأن المصدر الرئيسي للإبداع هو الخيال والذاكرة، وكلاهما يلعبان دوراً مهماً لديّ في خلق الصورة وكتابة الشعر. إذا كانت "العبقرية هي استعادة الطفولة قصداً" كما يقول بودلير؛ فإن الشعر هو أيضاً كذلك،  بالتأكيد الذاكرة هي موئل الإبداع وأنا أستعيدُ سنوات الطفولة والبراءة والطبيعة الخلابة المتغيرة خلال الفصول الأربعة لقريتي القريبة من مدينة كركوك الواقعة في منطقة سهلية محاطة بالهضاب والتلول والوديان والينابيع، فإن مكونات هذه البيئة بكل أشكالها تُرافقني وصورها تنبضُ في ذاكرتي. أعتقدُ أنَّ مُحترف الشاعر هو ذاكرته ومخيلته لإبتكار صور بديعة وبريئة ودافئة تخلق الدهشة والإعجاب والفرح لدى المتلقي. نعم ..الشعراء يحبون سرد ذكرياتهم من خلال الشعر وليس السرد النثري.
ولديّ قصة غريبة مع الشعر، تنقسم إلى ثلاث مراحل حيث المرحلة الاولى (1970-1987) والتي ضاعت أكثر قصائدي التي كتبتها في تلك المرحلة بسبب الظروف السياسية والنضال الكوردي المسلح خلال تلك الفترة. المرحلة الثانية (1987-2008) وهي فترة التوقف عن كتابة الشعر، ولكن لم أتوقف عن القراءة في مجالات متنوعة مع الإهتمام الأكبر بالشعر كما دأبتُ على نشر دراسات ومقالات نقدية عن الأدب والشعر والهندسة، المرحلة الثالثة (2008 - إلى الآن) وهي مرحلة العودة مرة أخرى لكتابة الشعر، ولكن بصورة مختلفة عن قصائد المرحلة الأولى وبأسلوب مُغاير لما كان سائداً في المشهد الشعري آنذاك. 
واستنفدت القصائد التعبوية رصيدها لذا فمن الطبيعي العودة إلى الهموم الإنسانية والجمالية والفردانية. إنَّ جُلَّ القصائد التي كتبتها في المرحلة الاخيرة والمترجمة إلى اللغة العربية تختلف عن قصائدي السابقة وحاولت الخروج من النمطية. ولستُ ضمن المشهد الشعري السائد وهم يعترفون بذلك. 
ويؤكد طيب جبار أن جميع قصائده في المرحلة الأولى تقريباً قصائد سياسية وتعبوية مؤيدة للكفاح التحرري الكوردي، وجمعها في ديوان واحد باسم "مرثية الرماد". أما في المرحلة الاخيرة فإن قصائده بعيدة عن السياسة نوعاً ما، رغم أن السياسة في العراق وكوردستان العراق تطرق أبوابنا يومياً، مهما حاولنا الابتعاد، وأنْ لا نفتح الباب فتدخل من الشباك، لذلك دخلت السياسة بعض قصائده عنوة، مثل قصيدة "دعاية انتخابية" في مجموعة "ذات زمان .. الظلام كان أبيض" حيث القصيدة على شكل قوائم حزبية مشاركة في الانتخابات، ولكن بصور وجمل شعرية جمالية بعيدة عن السياسة، وفيها نوع من التهكم والسخرية للأحزاب والانتخابات حيث تجتمع جميع القوائم في المقطع الأخير في قائمة واحدة (الكل)، الكل يرددون الشعارات الجوفاء والتعهدات الفارغة. وقال: أنا لا أحب أن أكتب قصائد سياسية مباشرة تحمل شعارات وأفكارا مستهلكة. 
ويرى طيب جبار أن شبح الموت موجود لدى أكثرية الكتاب والشعراء لجميع الشعوب قديماً وحديثاً، لأن الموت يقين وحيد وحقيقة خالدة. وقال: أنا بصراحة لا أفكر كثيراً بالموت لحد الآن، مازلتُ أرى نفسي شاباً نشطاً رغم تقدم العمر، وأن قصيدتي الطويلة المشهورة "يوم أموت" تتحدث عن يوم مماتي وماذا يحدث في ذلك اليوم وليس الموت، وفلسفة القصيدة هي اغتراب الإنسان في المجتمع الذي لم يكن ولن يكون وفياً معه رغم ما قدمتَ له من التضحيات، فيوم موتي مكونات وظواهر الطبيعة تبكي وتتأسف على رحيلي وتقيم لي مراسم الدفن والعزاء وليس الإنسان. 

الموت يقين وحيد وحقيقة خالدة
الشعر ليس له مصادر كتابية أو هوامش توضيحية

ويوضح الشاعر طيب جبار أن الإبداع هو خلق شيء جديد لم يكن موجوداً، والشعر لا يكون شعراً بدون خلق أواصر جديدة بين الكلمات سواء بالمفارقات اللغوية أو إنشاء علاقات جديدة بين الأشياء الحسية وظواهر الطبيعة والعلاقات الإنسانية وتحويل المألوف إلى غير المألوف وبالعكس، ناهيك عن ضرورة خلق لغة جديدة بموازاة لغة متداولة. 
ويرى أن الشاعرُ يستمدُ مواده اللغوية من قراءاته المُتشعبة ومشاهداته اليومية. وإذا لم ينجحْ  الشاعرُ في تثويرْ اللغة بناءً على مخزونه الثقافي لا يتمكنُ من تقديم شيء مُختلف، فبالتالي لن تكون صوره الشعرية جديدةً بل تبدو فارغة من عنصر اللذة والدهشة والاعجاب لدى المتلقي. 
وكما قلتُ سابقاً فأنا اعتمد على ذاكرتي ومخيلتي في كتابة قصائدي، لذا تجيء قصائدي مختلفة، وأعتمد كثيراً على الصور غير الواقعية الميتافيزيقية والتي تتجسد بسهولة في ذهن المتلقي وليست الصور الغامضة المعقدة، ولا أعتمد على الأفكار والطروحات والشعارات الواقعية المستهلكة.
وعن مكانة الرواية في حياته يؤكد طيب جبار أن يقرأ الرواية ويتابعها، وكذلك يقرأ في مجالات عدة وخاصة في مجال النقد الأدبي والتاريخ والفلسفة، ويوضح أن قراءاته متنوعة، ويقول: كل هذه الروافد وخاصة الرواية قد لا تكون عناصر أساسية لديّ لكتابة الشعر، وإنما أستطيع أن أعتبرها عوامل تمدني بأجواء صافية تساعدني للدخول إلى كهف الشعر. 
وفي رأيه أنَّ الشعر ليس له مصادر كتابية أو هوامش توضيحية، بل هو إلهام وإشراقات تأتيني في مواعيد وأماكن غير محددة، وأن بعض انطباعاته اليومية وحواراته مع الناس غالبا ما تكون نواة تنبثقُ منها الصور والقصائد علاوة على الدور الرئيسي للمخيلة والذاكرة.