عالم ما بعد أميركا

انهيار الدور الأميركي والذي يستتبع انهيار الهيمنة الغربية، يعني أيضا انهيار عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. العرب هم جزء من مشهد أكبر فيه.

ماذا اذا تلاشت الامبراطورية الأميركية التي لا تغيب عنها الشمس؟

لا يفكر من يرى ضخامة القوة الأميركية وامساكها بالعالم عسكريا واقتصاديا وثقافيا أن مثل تلك الامبراطورية يمكن أن تذبل ذات يوم.

فبينما تبلغ النفقات العسكرية الأميركية حوالي 600 مليار دولار في عام 2016 فهي لا تتجاوز 56 مليار دولار بالنسبة لبريطانيا العظمى، و47 مليار دولار بالنسبة لفرنسا و43 مليار دولار بالنسبة لروسيا. وبكلام آخر فنحن أمام عملاق عسكري في مقابل أقزام ما زالوا يعتبرون دولا كبرى حتى اليوم.

وفي الحقل الاقتصادي فقد بلغت صادرات الولايات المتحدة عام 2015 أكثر من 1.5 تريليون دولار، وبلغت وارداتها في نفس العام 2.2 تريليون دولار، وبالمقارنة فقد بلغت صادرات بريطانيا العظمى 23.3 مليار جنيه استرليني في عام 2016 أي ما يعادل 30 مليار دولار أميركي مما يوضح الفارق الكبير بين اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاد دولة تعتبر من أقوى الاقتصاديات الأوروبية.

كيف لامبراطورية اقتصادية – عسكرية بهذا الحجم العملاق أن تنكفئ ويتضاءل دورها ومكانتها العالمية؟

الجواب لا يمكن أن نعثرعليه في حقل الاقتصاد فقط ولا في حقل القوة العسكرية فقط بل لا يمكن العثور عليه سوى باحضارالحقل السياسي للميدان وشبكة العلاقات الدولية المعقدة وتأثيرالمواصلات الحديثة والاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي.

المسألة لم تعد في امتلاك القوة ولكن في الهامش المتاح لاستخدام القوة لتصل الى هدف سياسي محدد، وهنا يحضرني تشبيه الحالة الأميركية بالعملاق الذي وجده السندباد في احدى رحلاته المثيرة في جزيرة نائية، فهو عملاق اسطوري بقوة تبدو معها قوة أقوى الرجال كقوة العصفور، لكنه بعين واحدة، وحين تستطيع انتزاع بصره فلن تكون لقوته الهائلة أي فائدة.

فجأة وجد المارد الأميركي نفسه متورطا في العراق وأفغانستان ومتورطا في معارك أخرى متعددة هنا وهناك، وبعد فترة وجد أن تورطه يستنزف قواه دون أن يحصل على نتائج سياسية تكافئ الجهد والتضحيات المبذولة، هكذا توصل التفكير الاستراتيجي الأميركي الى شبه اجماع لضرورة غض النظر عن سياسة التدخلات العسكرية في العالم وقصرها على حالات محددة اضطرارية محدودة المدة والتكاليف.

لكن التفكير الاستراتيجي الأميركي لم يفطن الى ثمن ذلك الانكفاء العسكري، وهو ثمن باهظ على حساب دور ومكانة الولايات المتحدة الأميركية العالميين.

فالانكفاء العسكري يستتبعه الانكفاء السياسي، وعالم القطب الواحد الذي تكون في نهاية القرن العشرين بعد انهيار المعسكر الشرقي لايمكن أن ينهار عسكريا ويبقى على صعيد السياسة الدولية، وانهيار عالم القطب الواحد لايعني تراجع دور الولايات المتحدة بخطوات محدودة بمقدار ما يعني بداية انهيار ذلك الدور.

لأول مرة في التاريخ الحديث يضعف عالم الأقوياء في الغرب، ويأتي الاعتراف على لسان صحيفة لوفيغارو الفرنسية "لماذا يخسر الغرب نفوذه في العالم؟"

لكن دعوني استطرد قليلا، فان أية دولة أخرى تظن أن بإمكانها لعب الدور الأميركي هنا أو هناك ستنتهي بفشل أكبر من الفشل الأميركي فالمسألة ليست خاصة بالولايات المتحدة فقط لكن يبدو أن كثيرين يطمحون لذلك الدور في انتظار أن يتبين فشلهم بتجربتهم الخاصة.

على أية حال فان اللحظة الراهنة تظهر لنا أن الفراغ في القوة الذي يتركه الانكفاء الأميركي يجري ملؤه بقوى اقليمية بالدرجة الأولى. أما صعود الدور الروسي فهو حتى اليوم رد فعل لسياسة محاصرة روسيا وقضم مجالها الحيوي.

خطورة انهيار الدور الأميركي العالمي لا تكمن في انكفاء الولايات المتحدة وآثار ذلك الانكفاء بالنظر للولايات المتحدة كدولة من دول العالم ولكنها تكمن في أن الولايات المتحدة تقود وتحمي اليوم نظام الهيمنة الغربي على العالم وانهيار دورها العالمي سيتتبع انهيارا تاريخيا لهيمنة الغرب العالمية لأول مرة منذ مئات السنين.

صعود الشعوب المكبوتة

تمتلك الشعوب كيانا نفسيا يشبه كيان الأفراد فهي تختزن عوامل الألم والثأر لفترات زمنية طويلة، لكنها لا تلبث أن تعبرعنها اذا أتيح لها ذلك.

نعلم جميعا أن النظام الدولي الذي نعيش فيه قد تأسس بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية التي انتهت بمنتصر ومهزوم، وكما هو الحال دائما فان المنتصر يملي شروطه المذلة على المهزوم، ولا يجد المهزوم بدا من قبول ذلك، لكن الشعوب لاترضى بالهزيمة ولا بالذل وهي تطمح دائما للثأر لنفسها واستعادة كرامتها المهدورة.

انهيار الدور الأميركي والذي يستتبع انهيار الهيمنة الغربية يعني أيضا انهيار عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويحمل ذلك استحقاقات مازالت نائمة حتى الآن.

فهناك استحقاق استعادة ألمانيا دورها وكرامتها والخروج عن كل قيود الاستسلام التي فرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية.

وهناك استحقاق استعادة اليابان أيضا لدورها وكرامتها القومية التي هدرت بمعاهدة الاستسلام.

وأبعد قليلا من ذلك فانهيار الهيمنة الغربية سوف يقضي على آثار الحرب العالمية الأولى والتي لم تمسحها الحرب العالمية الثانية ومنها تحجيم الدولة التركية التي كانت امبراطورية لفترة طويلة من الزمن ومحاصرتها والحاقها ثقافيا واقتصاديا بالغرب.

وهناك مشاعر مشابهة في ايران ليست راضية عن تحجيم الدور الايراني في المنطقة.

أما الصين فهي أكبر خطر يهدد نظام الهيمنة الغربي الذي يشارف على الانهيار.

ورغم أن الثورة الصينية أدخلت الشعوب الصينية في سياقات مختلفة لكن تطلعات الهيمنة الصينية الاقتصادية العالمية تحمل معها مخاطرها السياسية والعسكرية التي ما زالت الصين قادرة على اخفائها بمكر كبير.

ونأتي الى العرب.

يخطىء كثيرا من يظن أن العرب قد استسلموا لواقعهم المزري، فالشعوب العربية تختزن الكثير من عوامل الكبت والقهر، ولا توجد أمة كبيرة وعظيمة لحقها من الظلم والاجحاف ما لحق العرب في العصر الحديث، وذلك كله بسبب نظام الهيمنة الغربي العالمي الذي كان يرى في العرب عدوا تاريخيا ينبغي تفكيكه والسيطرة عليه بكل الطرق والوسائل.

وحين يضعف نظام الهيمنة الغربي أو ينهار، فلن تستطيع أية قوة أن توقف صعود العرب مرة ثانية الى دورهم العالمي الذي يتناسب مع تاريخهم وحضارتهم وحجمهم وتأثيرهم في محيطهم الآسيوي والافريقي.

لذلك، مهما كان مقلقا تصور الفوضى التي ستلحق بالنظام العالمي مؤقتا بسبب انهيار الدور الأميركي وما يستتبعه من انهيار نظام الهيمنة الغربي، لكننا نحن العرب لن نذرف الدموع على ذلك النظام الذي لم يلحقنا منه سوى المذلة والاحتلال والتقسيم.