عبدالعليم القباني صورة من قريب
كنت أفكر كثيرا في هذه الإنسانية المفرطة والكبرياء الذي يشكل هذه التجربة الحافلة بالمكابدة والصبر الطويل على صروف وتقلبات تعاقبت نالت من أبوته ومن إحساسه بالوجود لكنه كان يحمل بين جنبيه إيمانا لم ينقطع بالاستمرار وتتحمل بشر ومتغيرات مما لا يقدر عليه غير شاعرنا ذلك الذي ظل يصدح بشعره وينطلق كالنورس على شواطئ الإسكندرية التي امتلكته وسرى عشقها في دماء قصيدته فملأ دنيا الناطقين بالعربية بإنسانية الشعر المبهجة وقربنا بمناظراته ومعارضاته من تجارب عالمية لها قيمتها واعتبارها في تاريخ الشعر العربي والعالمي.
وجاءت أغنياته المهاجرة ترنيمات عكست وحدة المشاعر وتوغل رهافتها في حساسية الشعر وحضور الإسكندرية في تجارب كثير من الشعراء العالميين وعلى رأسهم كفافيس لهذا حبب الكثير من أجيال الإبداع السكندرية التي تعاقبت في هذه المدينة الساحرة حتى صارت في شعر بعضهم نبض التجربة والصدر الذي تستريح عليه هدهدات الوطن والفنار الذي اهتدت على مراسيه خفقات المحبين والعشق الذي استأثر بكيانهم فهاجرت داخلهم حتى مع أحزانهم كما نرى في تجربة أحمد فضل شبلول على سبيل المثال فلم يستطيعوا الخروج من سياج البحر والمكان.
وحين قرأت خبر رحيل الشاعر الكبير عبدالعليم القباني، أرجعني في لحظتها إلى شريط طويل من الذكريات الثرية مثل فيه شاعرنا حضورا مؤثرا بكل ما كنت أتمثله وأحلم أن أراه مجسدا في شاعر بمثل قامته حيث كان في أغلب المهرجانات والأمسيات الشعرية والندوات التي حفل بها قصر ثقافة الحرية هو الطيف الشعري الذي لا يشعر به جمهور الشعر إلا حين يلقى القصيدة ثم سرعان ما ينتحي جانبا لا يتحدث إلا إذا حدثته، فإذا ما اقترب منا شاعر شاب هم يستقبله متهللا بحنو الأب وتواضع المثقف الكبير لهذا كان يحظى بحب وتقدير كافة التيارات الأدبية.
أتذكر أيضا حواره الصادق والتحقيق الدراسي الجميل في عفويته المنشور بمجلة "الهلال" منذ سنوات طويلة وقصة حياته التي نشرتها "أخبار الأدب" في وقت يتعاظم فيه التجاهل والإهمال، أتذكر دواوينه وكتبه وأشياء كثيرة مما لا يتسع لها المقام ولا الوقت الآن.
نجوم تلمع تحت ظروف معينة منها الأصالة والعبقرية وتأثير الزمان والمكان بصفة خاصة على إحساسه فيلمع ليصبح بعد ذلك علامة خالدة من علامات تاريخ الأدب
يرى القباني أن الأديب جزء من مجتمعه لا يمكن انتزاعه منه وفنه مرآة تعكس هذا المجتمع وليس من الضروري أن يتبع مذهبا معينا ما دام صادقا مع نفسه.
المذهبية قيد وهو يرفض كافة القيود والإنسانية هدف لا خلاف عليه، وقال: أنا لا يمكنني تقدير ما أرى حين أنظر بعيون الآخرين لأنني لست قاصرا حتى يخطط لي فلان أو علان طريق رؤيتي، أما القضايا الأدبية فهي تختلف باختلاف المكان والزمان، وأما الحوار فأنا لا أتأخر عنه وقد حضرت عدة مؤتمرات منها ما عقد في مدينة المنيا وأسوان والوادي الجديد وآخرها ما عقد في بوخارست برومانيا حيث أقيم حوار دولي باسم مؤتمر الشعر من أجل السلام وقد مثلت مصر في ذلك المؤتمر.
وعن ملامح أدب الشباب وهل يجد ملامح من أدب المستقبل عندهم قال: إن الحياة متحركة ولكل دوره فيها ولا يمكن للأدب أن يموت ما دام صادقا ولا يمكن لأدبي أن يكون ممثلا لأدب ابني فقد خْلق لزمان غير زماني، قد نتفق في الأصول لكن التفريعات يخلقها الصراع الزمني ولكل زمان قضاياه كما أن لكل مكان قضاياه كذلك، كل ما في الأمر أن هناك نجوما تلمع تحت ظروف معينة منها الأصالة والعبقرية وتأثير الزمان والمكان بصفة خاصة على إحساسه فيلمع ليصبح بعد ذلك علامة خالدة من علامات تاريخ الأدب، وهذا لا يختص به زمان عن زمان ولا سن عن سن ولا مكان عن مكان.
كانت تلك هي رؤية الشاعر في منتصف الثمانينيات .. ترى هل رفض الشاعر وقتها للمذهبية لأنه كان مبدعا طليقا لا يحب إلا حياة الشواطئ كالنوارس ويؤثر المدى المترامي للفضاء الكوني كالفلاسفة أم أن رفضه كان مدركا لما تأكد الآن بعد كل هذه السنوات من تأثير المذهبية السلبي على الأدب والأدباء؟
وهل الأدباء الذين كانوا شبابا صغيرا في الثمانينيات صدقت فيهم رؤية الشاعر الآن وأن ملامح المستقبل قد تبلورت في إبداعهم أم أن نظرة التفاؤل عند الشاعر الراحل عبدالعليم القباني كانت تنطلق دوما من عناقه للبحر؟