عبدالله إبراهيم يروي سيرة مثقف عراقي بسرد على هيئة الموج

الناقد العراقي يرسم صورة بلد جامح ما لبث أن تردى في الاستبداد ثم سقط تحت الاحتلال، وانتهى إلى النزاع الأهلي.
للحياة السرية نصيب واضح في الكتاب، وللحياة الخاصة نصيب مهم، والنصيب الأكبر للحياة العامة
الشائع أن السيرة الذاتية وصف تجربة شخصية في علاقتها بأحداث جسيمة
قضية صدق الوقائع من عدمها تثير موضوع جدل في كتابة السيرة الذاتية

كتب الناقد والمفكر العراقي د. عبدالله إبراهيم المتخصص في الدراسات السردية والثقافية، سيرته الذاتية خلال خمسة عشرا عاما معتمدا فيها على آلاف اليوميات التي دونها خلال أربعة عقود، ليخط سيرة مثقف عراقي على خلفية تاريخية لبلاده، رسم فيها صورة بلد جامح ما لبث أن تردى في الاستبداد ثم سقط تحت الاحتلال، وانتهى إلى النزاع الأهلي، مستنتجا أن العراق الذي كان يتمتع بهوية جامعة سينتهي إلى بلاد بهويات عصابية متشققة وتصبح هوية الجامعة ذكرى من التاريخ.
في سيرته التي صدرت تحت عنوان "أمواج" انطلق عبدالله إبراهيم من حيث ولد في قرية تقع في الغرب من كركوك، لافتا إلى أن سجلات الأحوال المدنية تعود لأسرته فيها إلى الحقبة العثمانية، "نحن من العرب الأصليين في المدينة، وتعد الحويجة وما حولها مركز ثقل العرب في كركوك، فيما يقطن التركمان في طوز وما جاورها وإلى الشرق والشمال باتجاه السلمانية وأربيل، في جمجمال وشوان يستقر الكرد. أما سكان المدينة فمن الأعراق الثلاثة فضلا عن اللآشوريين والكلدان".  
السري والخاص والعام

كنت مسكونا بهاجس الصدق فيما كتبت، وهو صدق نسبي، يتضح في كثير من الأحيان أنه سيل من الأخطاء في ضوء الأحداث اللاحقة

يؤكد د. عبدالله أن كاتب السيرة الذاتية يدمج بين السريّ والخاص والعام، ولا يحق له أن يبالغ في الاهتمام بمستوى دون آخر، وعليه ألا ينظر بتحيّز مسبق إلى تجربة حياة بأنها منزّهة عن الأخطاء، فحياة الإنسان لها ثلاثة مستويات أساسية: حياة سرية، وحياة خاصة، وحياة عامة، وليس يجوز له، بذرائع أخلاقية أو دينية أو إجتماعية، حجب مستوى والاهتمام بآخر، وقد سعيت للتوفيق فيما بينها في سيرتي "أمواج"، فللحياة السرية نصيب واضح في الكتاب، وللحياة الخاصة نصيب مهم، وربما يكون النصيب الأكبر فيه للحياة العامة. وعلى الرغم من ذلك يتصل كتاب سيرتي الذاتية اتصالا قويا بالأحداث الاجتماعية والسياسية في العراق خلال حقبتي الاستبداد والاحتلال، كما أنه عرض لكثير من الأحداث في منطقة الخليج والشرق الأوسط والعالم، وقد غطت السيرة تجربة حياة لمدة تقرب من خمسين عاما حافلة بالأحداث، والحروب، والترحال، والمنفى، لكن مصير العراق خيّم عليها، فهي "سيرة عراقية" لما طوته في صفحاتها من تجارب كثيرة كنت شاهد عيان عليها، فقد شهدتُ العراق بلدا متماسكا، وشهدته تحت الاستبداد، وشهدته ممزقا بحروب استعمارية وحروب أهلية، وظني أن القارئ الحصيف سيدرك بسرعة نبرة عدم التحيّز العرقي والديني والمذهبي والثقافي طوال صفحات السيرة، وأعوّل كثيرا على مراعاة اعترافي الصريح بالأخطاء، والرغبة في تخطّيها. ولا ينبغي على المرء أن يخجل من أخطائه إنما يفتخر بالخروج عليها.
ويلفت د. عبدالله إلى أن الشائع أن السيرة الذاتية وصف تجربة شخصية في علاقتها بأحداث جسيمة، تكتب لتكشف دور ذلك الشخص منخرطا في صنع الأحداث، لكن هذا التعريف تصدّع في نفسي بمرور الزمن، فلم يعد مجديا مفهوم الأهمية، لأنه يغفل منظور الشخص، ورؤيته لعالمه، كما أنه يهمل ما أعدّه الآن الركن الأساسي لكل تجربة ذاتية: وهو تطور الوعي وتحولاته، ثم أثر ذلك في علاقة الشخصية بنفسها وبعالمها، فكأن السيرة بمفهومها القديم تاريخ ناجز، فيما المفهوم الجديد يجعلها نصا قيد التشكيل بصورة لا تنتهي، ومن المهم معرفة التوتر العميق، والالتباس المبهم بين الشخص والعالم، وذلك لا يتأتّى لشخص انصهر في العالم ونسي نفسه، إنما لشخص وضع مسافة مناسبة بين الاثنين، وامتلك حرية الحركة ذهابا وإيابا في تطواف دائم، مخترقا الحدود الرمزية بينهما. 
جرعة الاعتراف

وحول جرعة الاعتراف في "أمواج" يضيف "أن التجارب الذاتية سجل للاخفاقات والنجاحات، وتخطّي العثرات، وفيها كل ما يسرّ القارئ ويغيظه، ولعل كثيرا من الكتاب يجفلون من تجاربهم التي استحالت إلى ذكرى، فيطمرونها كعار، وبها يستبدلون تاريخا مجيدا لحياتهم، بأن يشيحوا عنها بوجوههم، أو يراوغوا، أو يمّوهوا، وربما يزينوا، أو يلطّفوا، ومن النادر أن يجرؤ امرؤ على تحقيق درجة كافية من المطابقة بين ما وقع وما روي، ولا يعود ذلك إلى تجنبهم البوح الصادق أو التكتّم فقط، إنما لأن تمثيل التجارب من خلال السرد يعيد إنتاجها في سياق مختلف. 
وقد سعيت إلى تخطّي كل ذلك، في السيرة اعترافات صريحة تعذّر عليّ كتمها، وهي ليست تجارب خاصة، فحسب، بل آراء كثيرة جهرت بها، ومع ما سوف يترتب على ذلك من سوء فهم، وتقويل، وافتراء، فقد أخلصت فيما أردت قوله ووصفه، فلا يعاب على المرء التصريح بأمر إنما يعاقب عليه الإخفاء والطمس والهرب من قول الحقيقة. وكل ذلك ورد في شكل أدبي اصطلحت عليه بالأمواج، وهو شكل اهتديت له في كتابة سيرتي، وأنا أدمن الوقوف على شواطئ البحر المتوسط وسواحل الخليج حيث لاحظت الأمواج المتلاحقة التي زرعت في نفسي فكرة أن حقب الحياة كأمواج تتدافع ثم تتلاشى، فهي تنبثق من عمق اليم، وتتبدّد على سواحله، وكان لذلك مفعول السحر في نفسي. وعلى فكرة متوالية الأمواج بنيت فصول السيرة، وكما أن الأمواج تكون هائجة وصاخبة أحيانا، وهادئة بطيئة أحيانا أخرى، فكذلك أمواج السرد في هذا الكتاب الذي استغرق صوغه عقدا ونصف. 
أمواج حياتي
ويلفت د. عبدالله إلى أنه أقام كتابه على شكل سردي له صلة بأمواج البحر دون سواها، ولعل تلك هي أمواج الحياة في العراق. وسعيت إلى عدم إخفاء موجة من أمواج حياتي حتى عام 2003. لم يختف شيء من أمواجها عن قصد، إنما لأسباب تتصل بطبيعة الكتابة السردية، والحقبة التي غطتها السيرة، فكل ما بعد عام 2003 مؤجّل إلى جزء آخر منها، وما سوى ذلك قيل من غير مواربة. ولكن ينبغي القول بوضوح أنني لم أعثر على حقيقة مطلقة في كل ما كتبت، ولوهلة خيّل لي أنه بوسعي قول الحقيقة المجردة، لكن الوعي كشف لي أن ما نزعم من حقائق هي جمرات ترمى في حوض ماء، فلا نسمع إلاَّ صوت انطفائها، وديمومة الأشياء في كونها محل تكوين، وإعادة تشكيل، وليس في كونها جثة هامدة في سجل التاريخ، ولوصف ذلك ينبغي أن يكون المرء عاريا، وبهذا المعنى فالكتاب ضمّ الأمواج الأساسية التي رأيت أنها مهمة.
السرية ليست عارا
ويقول د. عبدالله "أراني شغوفا بقراءة السيرة الذاتية، وأعدّ جيّدها من عيون الأدب السردي، وهي من الآداب الأصيلة، وفيها من الحقائق الناصعة بمقدار ما فيها من التخيلات الرابطة بين الأحداث، والتجارب، والأفكار، والآراء، وأجد من الواجب أن أصرّح بأنه من اللازم أن تطرق السيرة الذاتية باب المنطقة السريّة في حياة صاحبها وإلا فسوف تفقد جزءا كبيرا من وظيفتها، وذلك هو الجزء الجوهري في كل كتابة ذاتية. لكنّ لذلك محاذير شتّى، إذ يخشى المؤلّفون الغوص في حيواتهم السرية للاعتقاد الشائع أنها نوع من العار، فيطمسون ما آراه شرطا أساسيا من شروط السيرة الذاتية، ولا أرى أهمية لها من دون ذلك، وليس ينبغي التكتّم على ذلك لأن البطانة الذاتية للمرء هي المكوّن الأول لهويته الشخصية، بل أراها المانح الشرعي لكتابة السيرة الذاتية، كما لا يجوز إغفال الحياة الخاصة للكاتب لأنها تتصل بمسار نشأته وتطوره، وإداركه للعالم المحيط به، وأخير ينبغي أن يقدّم كاتب السيرة شهادته الكاملة على عصره، ويكشف تطوّر وعيه بأحداث زمانه، وإلا جاءت السيرة خلوا من الأهمية التاريخية.
الكتابة المبكرة 
ويحبّذ د. عبد الله إبراهيم لكاتب السيرة ألا يؤخّر كثيرا كتابة سيرته ونشرها لأن النسق الاجتماعي والديني والسياسي سوف ينطبق عليه فيحول دون جهره بالوقائع التي عاشها، ولم أكن في منأى عن الخوف من بعض هذه الأمور حينما كتبت الكتاب، ولذلك لا أوصي بتأخير ظهور كتب السيرة الذاتية إلا لأسباب قاهرة، وكنت خطّطت لنشر سيرتي  وأنا دون الخمسين، غير أن عملية كتابتها استغرقت خمس عشرة سنة، فقد جرى تحريرها، وإعادة صوغها أكثر من خمس مرات، وفي كل مرة كان يقع استبعاد أشياء وإضافة أشياء جديدة غيرها، وتمكنت بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام من العودة للعراق أول مرة، واستعدت ستة مجلدات من يومياتي كنت تركتها قبل خروجي من البلاد، واعتمدت عليها في تحرير جزء كبير من السيرة بين الدوحة وإسطنبول، وباستثناء الموجة الأولى من السيرة، وعنوانها "بيضة الريح" التي كُتبت من الذاكرة، فإن الموجات العشر الأخرى استفادت من يومياتي، وفيها تجاربي الشخصية، وآرائي، والأحداث التي عاصرتها، ولعل ملازمتي للنص طويلا، وحرصي على شموله كان أحد أسباب تأخر الانتهاء منه، فقد حمل، في تقديري، قصة العراق، وهي قصة تقع في مركز اهتمام العالم وليس قصة محلية أو إقليمية هامشية، وقد صدرت السيرة حينما دخلت الستين من عمري، علما أن أشهر كتب السير الذاتية كتبها أصحابها وهم في منتصف أعمارهم تقريبا. 

سيرة ذاتية
وعي أصيل

حرارة التجارب 
ويرى د. عبدالله أنه كلّما تقدم العمر بالمرء تنطفئ حرارة التجارب في داخله، ففي مجتمع ضاغط، ومجهّز بنظام شامل من قيم الامتثال والولاء، تتراجع فردية المرء واستقلاليته كلما خطا به الزمان إلى الأمام، فينتهي مرائيا أكثر منه فردا قادرا على الإفصاح عن نفسه، وتجاربه، وأخطائه، وعيوبه؛ لأن الاعتراف بذلك يُنبذه من سياق أصبح - بفعل الكِبَر - بحاجة إليه، فغشتني مخاوف من ألاّ أتمكن من ذكر الأشياء فيما بعد، وينبغي قولها وأنا على مشارف الخمسين. ولست على بيّنة نهائية من السبب الذي جعلني أفترض أن يكون سنّ الخمسين حدا فاصلا بين مرحلة القدرة على الجهر بالأشياء، ومرحلة التكتّم عليها، فربما خيّل لي أن خطّا وهميا يفصل بين حقبة القوة وحقبة الضعف، أي بين التفرّد والامتثال، وما نتمكّن من قوله ونحن أقوياء لا نتمكّن من الإفصاح عنه ونحن ضعفاء، فنبرة التودّد، والخجل تستفحل بالتدريج في الحقبة الثانية، وذلك يغيّر أو يزيف كلّ ما وقع في الحقبة الأولى، فتجارب التكوين الذاتي تتشكل بمعظمها في الأولى، واستعادتها في الثانية، هو نوع من اقتلاعها وترحيلها، وذلك فيما أرى يُحدث هوة لا تردم بين التجربة والإحساس بها، فحينما يصبح المرء مدينا لحقبة، لن يكون قادرا على روايتها بأمانة، وسيقع تحت طائلة التحيّز، بل ويسبغ عليها ما يرغب فيه الآخرون، تجنبا لإثارة لغط سينبثق لا محالة في الوسط الذي ينتمي إليه، فهو يريد أن ينتهي بريئا قبل أن يطبق عليه جفن الردى، وبحاجة إلى شهود على براءته، وليس مشاركين له في تجربته الحقيقية، فكأن الحياة، في المجتمعات التقليدية، تهمة ينبغي علينا ختمها بصك براءة، وطمرها. أتمنى ألا أكون قد وقعت فيما حذّرت منه.
صدق الوقائع
وتثير قضية صدق الوقائع من عدمها موضوع جدل في كتابة السيرة الذاتية، حيث يرى د. عبدالله أن "سيرتي الذاتية استلهمت السيرة رحيق اليوميات بدءا من الإلتماعات الشعرية إلى المغامرات الشخصية إلى الأحداث الخطيرة، وكشفت اليوميات، ثم السيرة، شخصا تورط بأخطاء الجاهل، وسيطر عليه الوعي الزائف بما وقع في بلاده، ومرّ زمن طويل قبل أن يكتشف ذلك، ويسعى إلى معرفة الحقائق بما يعتقد أنه وعي أصيل، فاليوميات من هذه الناحية مدوّنة لتطور الوعي بالأحداث، وهو تطور بطيء، وفيه ارتدادات، ولو وضعت تحت معيار مفهوم القيمة لوجدنا فيها ما يخجل ويعيب من جهة، وما يسبب السخرية والضحك من جهة ثانية، وما يثير العجب من جهة ثالثة. وكل ذلك ليس لأهمية الوقائع أو ضحالتها، إنما للطريقة المباشرة، والصريحة، وغير المتحفظة التي رويت بها. ففي نهاية المطاف كنت مسكونا بهاجس الصدق فيما كتبت، وهو صدق نسبي، يتضح في كثير من الأحيان أنه سيل من الأخطاء في ضوء الأحداث اللاحقة، ومع ذلك فهو جزء من التاريخ الشخصي ولا ينبغي محوه، ولا حتى الخجل منه، فذلك أمر وقع. والحال أن هذه السيرة التهمت لبّ المادة الخام.
بطاقة
عبدالله إبراهيم، مفكّر، وناقد من العراق، تخصّص في الدراسات الثقافية والنقدية، ونال درجة الدكتوراه في الآداب العربية من جامعة بغداد في عام 1991. وعمل أستاذا جامعيا في عدد من الجامعات العراقية والعربية، حصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب لعام 2014، وعلى جائزة الشيخ زايد في الدراسات النقدية لعام 2013، وأصدر أكثر من 20 كتابا، منها: موسوعة السرد العربي بـ 9 أجزاء في نحو 4000 صفحة، والمركزية الإسلامية، والمركزية الغربية، والثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، والسرد والاعتراف والهوية، والتلقّي والسياقات الثقافية، والسردية العربية الحديثة، والتخيّل التاريخي، والسرد والترجمة، وعين الشمس.