عبد الله بوصوف يلاحق 'محددات الهوية وممكنات القوة الناعمة' في تمغربيت

الكتاب يعد رسالة إلى الجهات الوصية على القطاعات ذات الصلة بالثقافة والمغربة والتربية، لأجل المحافظة على خصوصيات هذا البلد من الاندثار والذوبان الثقافي، وترسيخ مقومات الهوية الوطنية في النشء.
الزبير مهداد
الرباط

الثقافة والمجتمع متكاملان، لا انفصام بينهما. فلا وجود للثقافة بدون مجتمع لأنه هو الذي ينتجها. كما أنه لا وجود لمجتمع دون ثقافة، دون معتقدات، أو فنون، أو عادات، أو قوانين، وغير ذلك من الأمور التي ينتجها ويقرها كأنظمة لتحدد معالمه وقيمه التي يسلك أفراده على ضوئها. فالثقافة هي التي تمنح جسدنا ملامحه، وجهه، لونه، قامته، وسامته، رنة صوته، حدة إنصاته، هذه هي الثقافة، فإذا محوناها، تبقى لدينا كتلة من العظام والعضلات، لا دلالة لها، وغير قادرة على الحياة.

 والفروق بين المجتمعات تحددها الثقافات. والمجتمعات المتأسسة على تنوع عرقي، إثني، أو لغوي، أو ديني، تكون ثقافاتها متنوعة وغنية، وكلما كانت المجتمعات عريقة، كانت ثقافتها أغنى، تسهم في تشكيل هوية مرنة وصلبة في آن، تقوى على مواجهة التهديدات والتحديات، ولا تذوب بسهولة، أو تلتهمها ثقافة أخرى.

 ومن محاسن المغرب أنه يتميز بثقافة تعكس التنوع والتعدد، والقيم النبيلة التي أسهمت في وضعها كل العناصر السكانية التي استوطنت المغرب وتعايشت فيه، من عرب وأمازيغ، ويهود ومسلمين، وأفارقة وأوروبيين وغيرهم. ما أضفى على التقاليد المغربية في اللباس والطعام والحياة اليومية، والتراث المادي، والفنون التعبيرية، وغير ذلك طابعا متميزا بتنوعه لا يتكرر في بلد آخر.

 هذا ما يستفاد من كتاب "تمغربيت: محددات الهوية وممكنات القوة الناعمة" الذي ألفه الدكتور عبد الله بوصوف، وصدر عن مركز ابن خلدون لدراسات الهجرة برسم سنة 2022.

 يقع الكتاب في حوالي 300 صفحة، تتوزع مباحثه على 30 فصلا متنوعا، يمكن تجميعها في الأسطر التالية:

تمغربيت ومعانيها، ودلالاتها، وأبعادها، وامتداداتها؛

العناصر الثقافية التي تؤلف "تمغربيت" كالتسامح، والتضامن، والتعايش والتعدد الثقافية والمحبة؛

تثمين واستثمار "تمغربيت" في الترافع الإعلامي، وفي تدبير الشأن العام، وفي إرساء سياسات التنمية، وتسويق المنتج المغربي؛

تمغربيت في حياة مغاربة العالم في أوروبا وإسرائيل وأمريكيا وغيرها، وتقوية ارتباطهم بوطنهم، وحنينهم الدائم إليه؛

تمغربيت كعنصر اعتزاز وافتخار لمغاربة العالم من خلال الإسهام المغربي في إثراء العطاء الإنساني بالابتكارات العالمية، والإنتاج الأدبي والفني، وتمسكهم بعناصر هويتهم المغربية في اللباس والطعام والاحتفال وغيره.

 هذا الكتاب يندرج ضمن مشروع فكري طموح، اختطه المؤلف لنفسه، دفاعا عن القيم الإنسانية وتعريفا بالهوية المغربية، فهو حلقة في سلسلة المؤلفات والحوارات والخطط والمقالات التي يترافع فيها المؤلف عن المغرب وهويته التي تميزها الوحدة في إطار التعدد، والحوار مع احترام الحق في الاختلاف، في أحضان روح التسامح والتعايش الشائعة بين مختلف المكونات والرابطة بينها.

 إن أهمية الثقافة فهي الآلية القوية لإبراز وترسيخ الهوية والقيم. والثقافة الواضحة والمتسقة تسهم في إدماج الأفراد في مجتمعاتهموالاعتزاز بها، بخلق شخصية متسقة. معتزة بهويتها الواضحة. ما يقوي شخصيتها، ويمنحها شعورا بالأهمية، ويساعد على تكيفها الاجتماعي الموفق، فاضطرابات الهوية خطيرة جدا، وقد ثبت بالبحث والتقصي أنها ترتبط بالتطرف والإرهاب، لأنها باعث على الإحساس بالتهميش وتدني القيمة الذاتية.

فنحن أمام مشروع يقوده وعي ذكي، للتعريف بالقيم الإنسانية النبيلة التي تشكل الهوية المغربية، بمختلف أشكالها التعبيرية وتنوعها الثقافي، وأنها لا تتعارض مع هذه القيم الكونية، ويترافع المؤلف بوصوف على مبدأ أن "تمغربيت" تعمل على توحيد ما تفرق، من خلال استجماع مختلف الحساسيات الثقافية والهوياتية، ضمن إطار تعددي منفتح للعيش المشترك وتحقيق النبوغ.

 يوضح عبد الله بوصوف في مقدمة الكتاب بأن آصرة تمغربيت هي إمكان ثقافي وذكاء جماعي مغربي، يمكن أن يفيد في تحصين الهوية، وتحيين الروابط الاجتماعية، وإعادة بناء اللحمة الوطنية وتدعيم السلوك المواطن، إلا أن ذلك كله يوجب التفكير في تمغربيت بعيدا عن الاحتفائية أو الانبهار، وأهم من ذلك، أنه يوجب فتح أوراش للتفكير في استعمالاتها الممكنة، كقوة ناعمة، في الدفاع عن قضايا الوطن وحماية الناشئة وبناء المستقبل. وبذلك يمكن القول بأن هذا الكتاب يأتي ليفكر في تمغربيت، دفاعا عن ممكناتها الإنمائية والتغييرية، وترافعا بشأن الحاجة إلى هذه الآصرة الموحدة للمغاربة والحاضنة لاختلافاتهم وتعددياتهم الثقافية، والتي تعد عنصر إثراء لا إفقار.

 يشير الدكتور بوصوف أيضا إلى أن لفظة "تمغربيت" تختزل وتستجمع تاريخا من التلاقح الحضاري بين مختلف مكونات وروافد الثقافة المغربية، فما يلاحظ من تركيبها اللغوي، فهي توحد البعدين الأمازيغي والعربي في تركيب واحد، مع ما يتصل بهما من أبعاد حسانية وصنهاجية وموريسكية ويهودية وإفريقية. وذلكم "ذكاء مغربي خالص في القدرة على صهر المتفرق في بوتقة المتوحد. وهو ليس طارئا، أو عابرا، بل إنه محصلة نهائية لقرون طويلة من التفاعل الثقافي بين أجدادنا الأمازيغ وباقي الشعوب المختلفة من الفنينقيين إلى الرومان إلى العرب المسلمين وغيرهم من آل الديانات السماوية وباقي الشعوب والأرومات التي أسمته بالمغرب الأقصى ومراكش والمغرب الكبير وموريطانيا الطنجية، إلى أن بات مملكة مغربية، يقام لها ألف حساب في مختلف دول المعمور".

عبارة "تمغربيت" هي الطابع المغربي المميز، الذي يختزل تاريخ المغرب السياسي والاجتماعي، وما يكتنزه من قواعد التسامح بين المكونات السكانية التي تعايشت في أحضانه، وما زالت، لاجئة إليه للاستمتاع بفرص العيش والأمن، أو مرورا به نحو آفاق أخرى. كلها عاشت في أمن، وتلاقحت، وتعارفت، وتبادلت ثقافتها وفنونها ومشاعر تقديرها واحترامها لبعضها.

يقول المؤلف إن هذا التعايش والتبادل والتثاقف، جعلت المغرب بمثابة خزان ثقافي ثمين، إن التسامح الديني، والتعايش العرقي، والنموذج التديني المعتدل،وفنون الطبخ، وجماليات المعمار الحضري والقروي، وروائع الصناعة التقليدية، وطقوس الاحتفالات العائلية والدينية، وغير ذلك،وقبول الآخر بصرف النظر عن لونه أو لغته أو عقيدته، كلها عناصر يجب الاعتزاز به، كما يمكن توظيفها كقوة ناعمة لتحقيق الإشعاع الديبلوماسي الدولي لبلادنا، والاحتجاج بها خلال الترافع والمنافحة عن مصالح الوطن والمواطنين واستمالة جماعات الضغط العالمية. كما يمكن أيضا استثمارها لتصبح قوة جذب سياحي، تعود بفوائد مالية وتوفر فرص الشغل. ما يدعو، أكثر من أي وقت مضى، إلى العمل على صون ورعاية هذه الأصول والثروات الثقافية المادية وغير المادية، وتثمينها والتعريف بها، حتى تضحى قوة تسهم في صون الوحدة الوطنية وبناء المستقبل.

إن "تمغربيت" التي تختزل تاريخ المغرب وثقافته، ستبقى آصرة موحدة لكل المغاربة،  فهي تجمع كل الهويات الفرعية، وتقضي على التشتت.تؤلف بينهما دون أن تنسخها أو تمحوها لفائدة ثقافة مهيمنة. فتمغربيت تجمع العربية وتامازيغت والموريسكية، والإسلام واليهودية، والبيوضة والزنوجة، والعروبة والأفرقة، وغيرها من الهويات التي تلتئم داخل الفضاء المغربي، محافظة على خصوصياتها، لأن المغرب على مدى قرون عديدة، تعايشت الأعراق والثقافات بندية دون أن تنصهر أن تموت. وكانت دوما عنصر افتخار لأصحابها.

خاصة في هذا العصر الذي تستفحل فيه العولمة، وتستغل الضعف والانقسام الهوياتي الذي يهدد كثيرا من الشعوب بفقدان خصوصياتها الثقافية، والذوبان في الثقافات الغربية والأمريكية المهيمنة، حيث سيبدو الكون بلون واحد، وثقافة واحدة، تخدم نظاما اقتصاديا عديم الأخلاق، وهذا ما يهدد بطغيان الشعور بالاغتراب الذي قد تترتب عنه نتائج خطيرة، تهدد الاتزان النفسي والأمن والاستقرار العالمي.

فكثرة الهويات المتاحة تجعل مسألة الهوية الشخصية غير واضحة المعالم. ثم إن ادعاءات المجموعات المختلفة في هذه المجتمعات حول "الهوية" أدت على انقسامات كبيرة، والأسوأ أنها تؤدي إلى غياب الفخر الوطني المشترك، وهو ما يحرص المؤلف بوصوف على تصحيحه،بدمج الهويات ببعضها البعض.

  فهناك من تعتري هويته الخلل، ويشعر بأنه منقسم بين هويتين متصادمتين إسلامية موروثة وأخرى غربية علمانية، إلا أن تعاطيه مع التعددية الاجتماعية وقبوله للحق في الاختلاف تجعله متسما بالتسامح وقبول الحوار.

"تمغربيت" تستوعب مختلف العناصر، وتتلاءم بحسب ظروف المكان والزمان. فهي ليست تصورا شوفينيا منغلقا، ولا كيانا أحادي البعد، أو غرورا بالنفس، واعتدادا بالذات، ونفيا للآخر؛بل هي باعث على استكشاف التنوع الثقافي المغربي الواسع الامتداد، جغرافيا وحضاريا، ووضعه في إطاره الدولي، أي هي منطلق للاعتراف بالتنوع الكوني والتعرف عليه،بل وأكثر من ذلك، فإن "تمغربيت" عنصر قوة لمغاربة العالم بالخصوص، لأنها تسمح لهم بأن يستوعبوا العناصر الثقافية الإضافية من المجتمعات التي يعيشون فيها، وتتحول هويتهم من البعد الأحادي "الأمازيغي" أو "العربي" أو "الحساني" أو "الريفي" أو "الإسلامي" إلى البعد التعددي الذي يستوعب إلى جانب المكونات الديني واللغوية والجغرافية الأصلية عناصر أخرى ثقافية ولغوية وسياقية. وتسمح لهم باستثمار البعد الأوروبي لتمتين هويتهم الأصلية، كما استثمروا سابقا البعد الإفريقي أو غيره، على المستويين الصوري والواقعي. لأن "تمغربيت" نفسها تعمل كأداة ضبط اجتماعية، تحدد ما يتلاءم مع الثقافة المغربية ومعاييرها الأخلاقية والقيمية، كالتسامح وقبول الاختلاف، والتضامن، والسخاء، والمحبة الإنسانية وغيرها، وترفض ما يتعارض معها كالعنصرية والتشدد والتطرف والانعزال، والبخر، وغير ذلك من الأخلاق والقيم المنبوذة. فتمغربيت حارسة القيم المغربية. هي القواعد والأعراف التي اتفق المغاربة حولها، وساعدتهم على العيش، والصمود في وجه الغزو، ومواجهة التحديات البيئية والاقتصادية والسياسية، ما مكنهم من العيش في سلام ووئام.

إن الكتاب رسالة إلى الجهات الوصية على القطاعات ذات الصلة بالثقافة والمغربة والتربية، لأجل المحافظة على خصوصيات هذا البلد من الاندثار والذوبان الثقافي، وترسيخ مقومات الهوية الوطنية في النشء.