عجز قياسي في الموازنة يهدد التزامات بغداد المالية تجاه أربيل

عجز غير محسوب يصل إلى أكثر من 30 في المائة من النفقات الكلية يهدد بتقويض الاستقرار المالي في البلاد، ويعيد إلى الواجهة خلافات مزمنة بين بغداد وأربيل بشأن تمويل الرواتب والمخصصات المالية لإقليم كردستان.
العجز سيؤدي لتأخر أو تقليص تحويلات الإقليم مما يهدد استقرار العلاقة الهشة بين الجانبين
التداعيات المحتملة لهذا العجز قد يتجاوز الجانب المالي لتصعيد سياسي جديد

بغداد - تشهد الموازنة العامة الاتحادية للعراق تحديًا جديدًا إثر انخفاض أسعار النفط العالمية إلى ما دون السقف المعتمد في قانون الموازنة الثلاثية (2023-2025) الصادر بموجب القانون رقم 13 لسنة 2023. ووفق مختصين في الشأن الاقتصادي، فإن الفارق السعري والذي بلغ حوالي 10 دولارات للبرميل قد يُفضي إلى عجز غير محسوب يصل إلى أكثر من 30 في المائة من النفقات الكلية، ما يهدد بتقويض الاستقرار المالي في البلاد، ويعيد إلى الواجهة خلافات مزمنة بين بغداد وأربيل بشأن تمويل الرواتب والمخصصات المالية لإقليم كردستان.
وانخفض خام برنت إلى ما دون 65 دولاراً للبرميل في بورصة لندن، مقارنة بالسعر الافتراضي البالغ 70 دولاراً الذي بنيت عليه الموازنة الثلاثية، ما تسبب بحالة من القلق داخل الأوساط الاقتصادية والنيابية. وقد تزامن هذا التراجع مع اضطرابات في السوق العالمية نتيجة الحرب التجارية وتصاعد التوترات الجيوسياسية، ما دفع الخبراء للتحذير من تأثيرات مباشرة على السيولة والالتزامات الحكومية الأساسية خاصة تجاه أربيل.
وقد أعادت الأزمة المالية الجديدة إلى الواجهة الجدل حول التفاهمات المالية بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، خصوصًا ما يتعلق بمخصصات الرواتب والتحويلات من بغداد إلى أربيل.
وقد يؤدي العجز المالي إلى تأخر أو تقليص تحويلات الإقليم، مما يهدد استقرار العلاقة الهشة بين الجانبين. وكانت ملفات الرواتب والنفط وطرق إدارة المنافذ الحدودية والضرائب من أبرز أسباب التوترات السابقة، ومن غير المستبعد أن تعود بقوة إذا استمرت الحكومة الاتحادية في سياسة التقشف أو إعادة ترتيب الأولويات المالية.
وتتجاوز التداعيات المحتملة لهذا التأخير الجانب المالي، إذ قد تؤدي إلى تصعيد سياسي بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان خاصة إذا تم تصوير ما يجري على أنه "تمييز سياسي" أو "عقوبة جماعية" بحق سكان الإقليم. وقد استُخدم هذا الخطاب سابقاً لتحشيد الشارع الكردي، وخلق حالة من التوتر السياسي داخل البرلمان العراقي، لاسيما من قبل القوى الكردية المعارضة لسياسات الحكومة الاتحادية.
بالمقابل، ترى بعض الأطراف السياسية في بغداد أن الإقليم لم يفِ بالتزاماته، وأن الاستمرار في تحويل الأموال دون مقابل فعلي يشكل خرقاً لقواعد الإنفاق العادل في الموازنة، ويشجع على الاستقلال المالي غير المنضبط، في وقت تعاني فيه محافظات الوسط والجنوب من نقص حاد في المشاريع والخدمات.
ورغم تطمينات المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، بأن الموازنة "مرنة" وتتضمن عجزًا تحوطيًا يُقدَّر بنحو 64 تريليون دينار لمواجهة تقلبات السوق، إلا أن خبراء يرون أن الأزمة تتعمق. ويؤكد صالح أن أولوية الإنفاق الحكومي تتركز على "الرواتب، الأجور، المعاشات التقاعدية، والرعاية الاجتماعية"، حتى مع تراجع الأسعار.
لكن الواقع يُشير إلى ضغوط متزايدة على السيولة العامة، خصوصًا مع استمرار الاعتمادية شبه المطلقة على الإيرادات النفطية في تمويل الموازنة، التي تغطي 95 في المائة من الإنفاق العام، بحسب الخبراء.
ويرى نوار السعدي، أستاذ الاقتصاد الدولي، وفق ما نقله عنه موقع " شفق نيوز" العراقي الكردي أن العراق "يسير على حبل مشدود"، مشيرًا إلى أن العجز الفعلي قد يفوق التوقعات ويهدد ليس فقط تمويل المشاريع الاستثمارية، بل أيضًا الالتزامات الأساسية كرواتب الموظفين. وقال "العراق ما يزال يفتقر إلى تنويع مصادر دخله، وهذا يجعله عرضة لأي هزّة في السوق العالمية".

العجز الفعلي قد يفوق التوقعات

وأكد السعدي على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية تشمل إعادة تسعير النفط في الموازنة وكذلك تقليص النفقات غير الضرورية. كما طالب بتفعيل الجباية غير النفطية بطرق حديثة وتقليل الاعتماد على القروض إضافة لمحاربة الهدر والفساد المالي والإداري.
ويرى خبراء ان السيناريو الأكثر تشاؤمًا هو حدوث انخفاض مستمر في أسعار النفط، مما يؤدي إلى عجز فعلي يضطر الحكومة إلى الاقتراض الداخلي أو حتى التأخر في صرف بعض الالتزامات.
اما السيناريو الوسطي فيتمثل في ضبط الإنفاق غير الضروري مع الحفاظ على الرواتب الأساسية، وربما تقليص بعض المشاريع الثانوية.
اما السيناريو الإيجابي بحسب الخبارء فيتمثل في عودة أسعار النفط إلى الارتفاع أو نجاح الحكومة في تفعيل الإيرادات غير النفطية مما يقلل من الفجوة في العجز.
ودعا الخبير النفطي حمزة الجواهري إلى "ترشيق المشاريع وتصفية الإنفاق الوهمي"، محذرًا من أن "العجز بلغ 84 تريليون دينار وهي أرقام مهولة".
بدوره اشار الخبير الاقتصادي كريم الحلو، إلى فشل العراق في تحصيل الضرائب والجمارك بشكل كفوء، مما يحرم الدولة من نحو 20 مليار دولار سنويًا يمكن أن تُستخدم لسد العجز الحالي.
ويعتقد أن العراق أمام لحظة حرجة تتطلب حكمة اقتصادية وإرادة سياسية لإعادة ضبط المسار المالي وتفادي تكرار الأزمات، خاصة في ظل نظام مالي يعتمد على النفط بشكل شبه كلي. ومع استمرار تقلبات أسعار الطاقة عالميًا، فإن الحل لا يكمن في الاعتماد على الحظ، بل في بناء اقتصاد متنوع ومستدام يضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار.