عراقيون رُحّلوا من أوروبا يصطدمون بتفشي البطالة وانعدام الآفاق

سفير الاتحاد الأوروبي يؤكد أن التكتّل يدعم بعشرات ملايين اليورو مبادرات ومشاريع في التعليم والتدريب المهني واستحداث فرص العمل لكي 'يلزم العراقيون العراق'.

بغداد - يعيش العراقيون المرحلون من البلدان الأوروبية أوضاعا صعبة، خاصة مع تفشي البطالة في بلادهم وانعدام الآفاق، فيما يؤكد العديد منهم رغبتهم في العودة في حال توفرت لهم الفرصة.

بعدما حاول على مدى عشرة أعوام تقريبا الحصول على إقامة قانونية في ألمانيا، رُحّل محمد جلال إلى إقليم كردستان في شمال العراق حيث يحاول إعادة بناء حياته من الصفر وسط فقر مدقع.

ومع تشديد سياسات الهجرة في أوروبا في ظل صعود اليمين المتطرف، تُرحّل دول كثيرة في القارّة العجوز آلاف المهاجرين الذين أتوا من العراق ومن جنوب البحر الأبيض المتوسط.

وتقيم عدة دول أوروبية شراكات مع العراق الذي يشهد استقرارا نسبيا بعد نزاعات استمرت أربعة عقود، تهدف إلى تشجيع العودة وتشمل برامج لتسهيل عملية الاندماج في المجتمع لا سيّما من خلال تدريب مهني.

ومع عودته إلى مسقط رأسه رانية في محافظة السليمانية، عاد محمد جلال (39 عاما) ليقيم مع والده المسنّ في شقّة ضيقة ينامان فيها على فرش إسفنجية رقيقة على أرضية خرسانية.

ويقول جلال بالكردية "إذا كانت هناك طريقة للعودة إلى أوروبا، فأنا مستعدّ للهجرة من جديد"، مضيفا "في هذه الحالة إذا تم قبول طلب لجوئي في ألمانيا، سأتمكّن من العمل في المطاعم الكردية بشكل رسمي من دون أن أحتاج إلى استلام راتب حكومي". أمّا في كردستان العراق فهو اليوم عاطل عن العمل.

وبدأت رحلته على طرق الهجرة في 2015، إذ سافر إلى إسطنبول ثمّ إلى إزمير حيث استقلّ زورقا نقله خلسة إلى إلى جزيرة يونانية، ومن هناك إلى أثينا ثم مقدونيا الشمالية وصربيا وكرواتيا وأخيرا ألمانيا، حيث أقام في مركز لطالبي اللجوء في جنوب البلاد وبدأ يتلقى من الدولة الألمانية حوالي 300 يورو شهريا.

وكان يضطر أحيانا إلى الذهاب إلى نورمبرغ التي تبعد أكثر من 150 كيلومترا إلى الشمال، وميونيخ البعيدة نحو 140 كيلومترا جنوبا، ليزاول "عملا غير قانوني (...) مدة شهرين أو ثلاثة" خلال الشتاء حين كانت تتراجع عمليات التفتيش عن أشخاص يعملون بطريقة غير نظامية.

وبعد رفض طلب لجوئه مرّتين، رحّلته السلطات الألمانية إلى العراق في يناير/كانون الثاني 2024 حاول عندها فتح مخبز، لكنه فشل. وعمل مدة شهرين في بيع الفلافل لقاء أجر يومي يعادل سبعة دولارات تقريبا.

أمّا اليوم، فيعتاش على مبلغ 150 دولارا يُرسله شهريا أقارب له يقيمون في المملكة المتحدة. وفي الربع الأخير من 2024، طُلب من نحو 125 ألف شخص غير أوروبي مغادرة إحدى دول الاتحاد الأوروبي، في زيادة نسبتها 16.3بالمئة عن الفترة نفسها في العام 2023.

وقالت السفارة الألمانية في بغداد إن برلين "من حيث المبدأ ترحل الأشخاص الذين يتوجب عليهم مغادرة البلد"، موضحة أنه "لا مجال للحصول على إقامة للمهاجرين الذين يدخلون ألمانيا بطريقة غير نظامية أملا في حياة أفضل لكنهم لا يحتاجون إلى الحماية".

وأشارت إلى أنه خلال العقد المنصرم، "وفّرت ألمانيا الحماية والملجأ لملايين الأشخاص الذين فرّوا من الحرب والعنف في بلدانهم".

ويقول أبوبكر علي مدير جمعية المهاجرين العائدين من أوروبا إلى كردستان، إن ما يصل إلى 300 شخص أُعيدوا إلى العراق في الربع الأول من أوائل العام الجاري معظمهم من ألمانيا فيما الآخرون من فرنسا ودول اسكندنافية.

ويضيف الناشط الحقوقي "دائما كنّا نحذّر خصوصا الشباب، من أن أوروبا ليست الجنّة التي يتخيّلونها في أذهانهم"، لافتا إلى أن "العائدين لا يجدون أحيانا مكانا ينامون فيه ولا عمل ولا مساعدات حكومية".

إذا كانت هناك طريقة للعودة إلى أوروبا، فأنا مستعدّ للهجرة من جديد

وفي السنوات الأخيرة، خسر كردستان العراق الكثير من أبنائه قضوا في غرق قوارب مهاجرين في البحر المتوسط والمانش.

ويقدّم الإقليم المتمع بحكم ذاتي، نفسه على أنه واحة استقرار، لكنه يشهد مشاكل اقتصادية تسبّب انسداد أفق عند الشباب. وفي 2021، بلغت نسبة البطالة في صفوف الفئة العمرية 15-24 عاما، 37.2% بحسب أرقام رسمية.

لكن العراق الغني بالنفط استعاد استقرارا نسبيا، على الرغم من سياسات عامّة غير فعّالة وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، بعد نزاعات استمرت أربعة عقود تخللها بروز تنظيم الدولة الإسلامية الذي دفع بالملايين إلى الهجرة.

وفي بغداد وأربيل، تدير المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي "غيز" مركزَين متخصصَين يقدّمان للعائدين من الهجرة تدريبا مهنيا ودعما نفسيا اجتماعيا ومساعدة لتأسيس أعمال تجارية، وتموّلهما كلّ من ألمانيا وسويسرا والاتحاد الأوروبي.

وبين يونيو/حزيران 2023 ومايو/أيار 2024، قدّم المركزان "الإرشاد والدعم" لنحو 350 عائدا من ألمانيا والاتحاد الأوروبي والمنطقة. ووقعت بعض دول الاتحاد الأوروبي اتفاقيات "عودة وإعادة قبول" ثنائية مع العراق، فيما يعد التكتّل القاري اتفاقية مماثلة مع بغداد، بحسب سفير الاتحاد الأوروبي لدى بغداد توماس سيلر.

وقال المصدر نفسه "منذ فترة طويلة بلغت قدرة مدن وبلدات على استقبال المهاجرين واستيعابهم حدها الأقصى في بعض أنحاء الاتحاد الأوروبي"، مشددا على ضرورة "منع الهجرة غير النظامية".

ولفت إلى أن التكتّل يدعم بعشرات ملايين اليورو مبادرات ومشاريع في التعليم والتدريب المهني واستحداث فرص العمل، لكي "يلزم العراقيون العراق".

وفي 2023، رَعَت المنظمة الدولية للهجرة "العودة الطوعية" لـ1577 عراقيا أرادوا العودة إلى بلدهم من أكثر من 20 دولة بينها ألمانيا وتركيا.

وأطلقت مؤسسة روانه الكردية في العام نفسه برنامجا لإعادة الدمج، بتمويل من الدنمارك وفنلندا. وتعمل كذلك على التوعية بهدف الحدّ من الهجرة غير النظامية.

وفي إطار هذا البرنامج اكتسب 120 شخصا مهارات مهنية تُمكّنهم من وضع خطة عمل وإنشاء مشروع صغير خاص بهم. وحصل 15 منهم على منحة راوحت قيمتها بين أربعة آلاف وخمسة آلاف يورو.

وغالبا ما تكون هذه المشاريع في البناء والنجارة وإصلاح الهواتف المحمولة والإلكترونيات والبيع بالتجزئة والخدمات الغذائية، أو حتى خدمات التجميل بالنسبة للنساء، بحسب كاميران شيفان مدير البرامج في مؤسسة "روانه".

وأوضح أنه في سبيل الهجرة، استدان العديد من المهاجرين أموالا، ما أدّى إلى ترتّب ديون عليهم "لا يمتلكون أي مصدر دخل أو أصول يمكنهم استخدامها للتسديد".

ومن بين المستفيدين من مساعدة مالية، محمد اسماعيل (29 عاما) الذي اشترى حصة في ورشة لإصلاح السيارات.

وفي 2016، وصل إلى ألمانيا آملا بتحسين وضعه المعيشي والحصول على جنسية أوروبية. لكن بعد خمسة أعوام وثمانية أشهر، لم يحقق هدفه ولم يُمنح إذنا للعمل، فيما كان يتلقى مساعدة تبلغ حوالى 320 يورو في الشهر.

وقال في ورشته "من أصعب التجارب التي مررت بها كانت الانتظار، خصوصا بعدما رُفض طلبي ثلاث مرات ووصلت إلى حالة من اليأس".

ودفعته هذه العوامل إلى قبول العودة إلى العراق في أبريل/نيسان 2021، وحصل لقاء ذلك على إجمالي 500 يورو من برلين ومن وكالة أممية أمّا اليوم فيكسب نحو 550 دولارا بالشهر ويعيل زوجته وطفلهما البالغ ثلاثة أعوام.

ويقول "في الوقت الحالي لا أفكر بالهجرة مرة أخرى بل قد أسافر إلى أوروبا في المستقبل لغرض السياحة فقط".