علاقة فنية حتمية بين المدينة والفيلم

محمود قاسم يرصد في كتابه "المدينة والفيلم" كيف سجلت الكاميرا عبقرية المدن.
في كل فنون السينما في العالم، لاحظنا مدى العلاقة الجبرية بين الفيلم والمدينة
"زقاق المدق" أفضل نموذج ملىء بالألفة والتقارب اللذين يجمعان بين الناس

القاهرة ـ من حازم حالد
 

استطاعت كاميرا السينما أن تتوغل في الأماكن كافة، المتخيل منها والواقعي، واحتفظت الصورة السينمائية بالأشكال القديمة التي كانت عليها المدن التي عشنا فيها أو زرناها، كما كانت، وصارت الأفلام شاهدا على التحولات السريعة التي طرأت على الحياة في الأماكن، وصنعت للناس حالة من الحنين .
كما كشفت السينما أن الأماكن هي الخلود، وأن كافة الحكايات التي دارت فيها تتلاشى، لكن تبقي القدرة الوحيدة لكاميرا السينما في الإبقاء على ذكريات المكان، مهما تغيرت معالمها .
يسافر قلم الناقد محمود قاسم، في كتابه "المدينة والفيلم" الصادر مؤخرا عن وكالة الصحافة العربية – ناشرون، ليسجل كيف سجلت الكاميرا عبقرية المدن، وقد دأبت السينما على تصوير المدينة، وما يحدث فيها، لدرجة أن السينما هي مدينة لا نهاية لها من الاتساع، وأن المدينة ليست سوى فيلم لا تنتهي أحداثه، في حالة مستمرة، من العرض لا يعرف التوقف.
وفي كل فنون السينما في العالم، لاحظنا مدى العلاقة الجبرية بين الفيلم والمدينة، فعلى مستوى الصناعة، فإن السينما لم تزدهر سوى في المدينة، وقد قامت صناعة السينما في المدن الكبرى، مثل هوليود (لوس انجلوس)، وباريس، وروما، والقاهرة وبكين، ونيودلهي.
أما عن الموضوعات، فإن المدينة موجودة في القصص، حتى في السينما الصحراوية، أو الريفية فإن هناك رجلا من المدينة يأتي إلى هذه الأماكن، للإقامة المؤقتة أو الدائمة. يقول محمود قاسم: لاشك في أن الرجوع إلى كلمة "مدينة" في عناوين الأفلام يعطي تعبيرا مختصرا عن أشياء كثيرة تدور في هذا المكان المتسع، ولعل من العناوين المليئة أيضا بالبلاغة ذلك المأخوذ عن إحدى أقاصيص يوسف ادريس "قاع المدينة" في الفيلم الذي أخرجه حسام الدين مصطفى عام 1974، وهو عنوان ملىء بالبلاغة، والدلالة أنه يتحدث عن أماكن بعينها في المدينة، وبشر يسكنون هذه الأماكن، والغريب أن الفيلم ليس عن قاع المدينة كمكان، بقدر ما هو عن حياة قاض، من طبقة أرستقراطية يعيش حياة ماجنة، يستجلب إمراة فقيرة للعمل عنده كخادمة، لا تلبث أن تصير عشيقة له.
المدينة ليست مكانا
وإذا كان اسم المدينة نفسها نادرة في أسماء الأفلام السينمائية المصرية، فإن أسماء المدن موجودة أيضا لماماً، خاصة العاصمة "القاهرة"، فالاسم موجود في العديد من الأفلام قليلة القيمة، والغريب أن هناك فيلماً بريطانياً تم تصويره في مصر عام 1963، قامت ببطولته فاتن حمامة وكمال الشناوى وجورج ساندرز وريتشارد جوتسون يحمل اسم "القاهرة"، والمدينة بالنسبة لصناع الفيلم لم تتعد أن تكون المتحف المصرى الذي تجرى سرقته، وأماكن الليل، وقد برز اسم "القاهرة" على أفيشات أفلام قليلة للغاية، وهي أفلام تكاد تكون مجهولة، مثل "إمراة من القاهرة"، وهو أول افلام المخرج محمد عبدالعزيز في عام 1974. ثم هناك فيلم من انتاج مصر – البحرين باسم "حبي في القاهرة" إخراج عادل صادق عام 1966، إلا أن أهم هذه الاسماء على الاطلاق هو "القاهرة 30"، كما أن هناك "القاهرة في الليل" لمحمد سالم عام 1943 .
بالإضافة إلى أن كافة المناطق القاهرية، صارت عناويناً للأفلام، خاصة المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ، أو التي كتبها خصيصاً للسينما، وهي كلها أسماء لمناطق صغيرة يعيش فيها عدد محدود من البشر مثل "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكرية"، و"زقاق المدق" و"خان الخليلي"، كما تحولت عناوين الأفلام بين "بنات وسط البلد" و"في شقة مصر الجديدة"، و"باب الحديد" و"فضيحة في الزمالك"، و"السكاكيني"، و"درب المهابيل" و"الدرب الاحمر"، و"فتوات الحسينية"، و"سوق السلاح"، و"كذلك في الزمالك" و"شارع محمد علي، و"شارع السد" و"الشرابية" و"في محطة مصر" و"الفحامين"، و"جدعان الحلمية" .. وغيرها.
هذا بالاضافة إلى أسماء مقاه، ونواد ليلية، وأماكن يتردد عليها الناس بشكل دائم، وجماعي والملاحظ من خلال هذه الأسماء، والعناوين، فأغلب الأماكن العامة، أو الأسماء التي جاءت كعناوين للأفلام، الخاصة بالقاهرة، باعتبارها المدينة الأم والأكبر، هي أماكن تخص الفقراء، أو فلنقل إنها موجودة في أحياء شعبية، ففي هذه الأحياء تختلف طبيعة البشر، وعلاقاتهم فيما بينهم، هم يأتلفون بالمكان، وتحس كأنما ليس هناك فاصل بين البنايات، أو حتى بين الشقق، ففي بعض الأفلام، تبدو النوافذ والشرفات مفتوحة مع بعضها البعض، لشدة اقتراب الشقق والسكان مثل "هذا هو الحب"، و"السفيرة عزيزة"، و"حياة عازب"، وهي أفلام تم انتاجها في فترات متقاربة .
أما خارج البيوت، فإن حالة "زقاق المدق" تبدو أفضل نموذج ملىء بالألفة والتقارب اللذين يجمعان بين الناس، فالمحلات متجاورة، صالون الحلاقة، إلى محل المعلم كرشة، وصانع البسبوسة، والمقهى، وغيرها، يقعون في دائرة ضيقة للغاية، مما يوحى بروح العائلة، بل إن الزقاق نفسه أشبه بشقة واسعة، أقرب إلى الربع في أحياء القاهرة القديمة، طموحاتهم لا تتعدى حدود المكان .
وقد تكرر الأمر نفسه في أغلب الأفلام التي كتبها نجيب محفوظ، حول جزء في المدينة، سواء المأخوذة عن رواياته مثل "خان الخليلي"، و"المطارد"، و"شهد الملكة"، والتي كتبها مباشرة للسينما، ومنها "المهابيل"، و"فتوات الحسينية"، فالمدينة رغم اتساعها، فإنها تبدو ضيقة بأهلها وسكانها، فحميدة في "زقاق المدق" التي تستجيب إلى فرج بأن تذهب الى منطقة عماد الدين محكوم عليه بالموت، ولا تعود إلا جثة هامدة، والأم في "الثلاثية" طردها زوجها من جنته، لمجرد خروجها من البيت مرة واحدة، لزيارة ضريح الحسين، وفي "درب المهابيل"، فإن الحلم بالثروة، والحصول على المال لا يرتبط قط بالخروج من المكان .
وقد ظلت المدينة دائما سببا لجذب أبنائها، بمعنى أن المدينة نفسها تجبر أبناءها على البقاء فيها، حتى لو رحلوا الى الخارج مضطرين، بحثا عن لقمة عيش، مثلما حدث في "عودة مواطن" لمحمد خان عام 1986، أي أن المدينة هنا تحولت إلى شبه حارة ضيقة، وزقاق بيوته بمثابة جدران سجن.
وفي بعض أفلام المخرج صلاح أبو سيف، فإن القادمين إلى المدينة، فعلوا ذلك بهدف البحث عن وسيلة للرزق في المستقبل، فالتعليم الذى جاء من أجله إمام في "شباب امراة" هو وسيلة للرزق في المستقبل، وأيضا جاء مئات من البشر للعمل في سوق الخضار في "الفتوة"، وكم امتلأت المدينة بأمثال هريدى في أفلام كثيرة.
وتلعب محطة القطار الرئيسية دورا في التعرف على المدينة، وتعمدت أفلام عديدة تصوير كيف كان اللقاء الأول المبهر الذي حدث للقرويين والصعايدة القادمين من قرى صغيرة الى عالم واسع، هو عالم المدينة .
 

المدينة الواسعة الضيقة
عالم المدينة