علم مقارنة الأديان.. يتطلب الحياد

قصة الخلق واحدة مع اختلاف التفاصيل

الأدب المقارن فرع رئيس في الدراسة الأدبية يقوم على الدراسة المقارنة لفروع في الادب بين أمم وثقافات مختلفة تبين أوجه التشابه والتبيان والخصوصية والسياق للانتاج الأدبي هنا وهناك؛ ومع أن التعبير نفسه كان خلافيا منذ أول استخدام له في محاضرات في جامعة السوربون مطلع القرن التاسع عشر فقد تكرس في النهاية كفرع في الدراسة الأكاديمية معترف به له ارث ومنهج ومختصون بل وامتد الأمر الى فروع أخرى في المعرفة وبات تعبير \"المقارن\" يطلق على كل دراسة أو بحث أو انتاج يقوم على نفس المنهج الذي يقدم إثراء معرفيا كبيرا ومن آثاره الأخيرة بناء الجسور والتواصل وفهم الغير والتقدير للبشر من كل لون وجنس.

هذا العلم وصل ايضا الى الأديان ولعله بدأ أكاديميا في بعض كليات اللاهوت المسيحي لكنه تطور ليصبح مساقا مستقلا لا يرتبط بالدراسة الدينية بل بكليات العلوم الانسانية عموما ويتم التقدم به لشهادات عليا. والحق انني لم اطلع على محتوى معين للتدريس هنا أو هناك ولكني أفترض ان المنهج هو نفسه أي القاء ضوء موضوعي وتحليلي محايد للتاريخ والتعاليم والرموز والنصوص والإرث الخاص بكل دين، والمهمة على درجة عالية من الحساسية تتطلب قدرا كبيرا من التجرد ما دام الأمر يتعلق بالعقائد والمقدسات ويجب الاقبال على الدراسة بروح طيبة وصديقة لأي دين أو عقيدة وبروح الحب المعرفي لثقافة وفكر ومعتقدات المجتمعات والجماعات وعلى صعوبة تحييد القناعات الذاتية فلا ينفع التصدي لهذا الفرع وخصوصا أن تكون مشرفا على تدريسه ودون ذلك فالأمانة العلمية تقتضي الابتعاد عن هذا المساق تحديدا. وأعتقد ان هذا معنى القرار الذي سمعت عنه وهو ابعاد الدكتور أمجد قورشة عن تدريس هذه المادة.

كنت سأفرح كثيرا بوجود هكذا مادة للتدريس في الجامعة لولا أني عرفت ذلك فقط من ضجة الاستياء التي اثارتها محاضرة قورشة المبثوثة على الانترنت وقد سارعت للاطلاع عليها وهي كانت عن الكتاب المقدس عند المسيحيين بقسميه العهد القديم والعهد الجديد وكانت معقولة لحد ما وهي تشرح الجانب الشكلي عن هيكل الكتاب المقدس وفصوله حتى اذا انتقلت الى المحتوى تحولت الى مناكفة لدحض ما جاء فيه من أول سطر (سفر التكوين) الذي يشرح كيف خلق الله العالم فأظهر المحاضر تنكره الكامل لمنهج العلم المقارن، اذ استخدم موضوع الدراسة مطية لممارسة وجهة نظر وموقف معروف في وسائل التواصل الاجتماعي.

استند المحاضر الى العلم الحديث \"المعروف حتى للصف الخامس الابتدائي\" كما يقول لدحض الرواية الدينية! وهذه ليست مهمة هذا الدرس. ثم الطريف هنا بالذات أن الرواية عن الخلق هي نفسها في الديانات الثلاثة طبعا مع فارق السياق والتفاصيل (وهو ما كان أصلا يجب تدريسه وتسليط الضوء عليه) فالعهد القديم أو التوراة يبدأ برواية خلق الكون ثم خلق الانسان ثم الحوادث الأولى بالتفصيل من آدم الى نوح والطوفان الى ابراهيم ونسله بينما لا يوجد في الانجيل اي رواية عن الخلق لأنه يتحدث ابتداء عن العهد الجديد مع ظهور المسيح ولا ينفي العهد القديم، والقرآن الكريم ايضا لم يتضمن اي رواية جديدة عن الخلق والتكوين واكتفى بإشارات عابرة هنا وهناك لقصة الخلق \"وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء \" هود 7. وهي نفس قصة التوراة لكن دون تفاصيل، وكذا الحال مع روايات لاحقة قد تتباين في طريقة السرد أو بعض التفاصيل والعلم المقارن للأديان هو من يرصد ذلك ويشرح أوجه التشابه أو التباين لكن المحاضر خطف العنوان لأجندة أخرى ولا ادري ما ستفعل الجامعة بالمادة فقد يكون الأفضل غض النظر عنها اذا لم تجد من يقوم عليها كما يجب.

جميل النمري

كاتب أردني